أ. د. وليد العريض يكتب:بين 6 أكتوبر 1973 و7 أكتوبر 2023: نصف قرن بين عبور القناة وعبور الوعي العربي

{title}
نبأ الأردن -
يقف العرب اليوم على بوابة زمنٍ فاصلٍ بين أكتوبرين؛ أولهما في عام 1973 حين دوّى صوت المدافع على ضفتي قناة السويس معلنًا نهاية زمن الهزيمة، وثانيهما في عام 2023 حين دوّى صدى الصواريخ فوق مستوطنات الاحتلال من غزة الصغيرة، معلنًا بداية زمن جديد من الوعي المقاوم.
الورقة تقارب الحدثين لا بوصفهما معركتين منفصلتين في التاريخ العربي الحديث، بل بوصفهما محطتين متكاملتين في مسار النهوض العربي من السقوط إلى الصحو، ومن الحرب الكلاسيكية إلى المقاومة المركّبة التي توظف الوعي والعقيدة والكرامة كسلاح.
اولا : أكتوبر 1973 – عبور العسكر وإعادة الكرامة
في السادس من أكتوبر 1973، الموافق للعاشر من رمضان، عبرت الجيوش العربية قناة السويس، لتكسر حاجز الهزيمة الذي خيّم منذ نكسة 1967.
كان العبور حدثًا مركبًا:

*-عسكريًا: تحطيم خط بارليف الأسطوري بمضخات المياه البسيطة، واستخدام تكتيكات المفاجأة والإخفاء

*-سياسيًا: إعادة الثقة إلى الجماهير بأن العدو يمكن أن يُهزم.

*-نفسيًا  حضاريًا: استعادة مفهوم "العزة" الذي كاد يُمحى من الذاكرة الجمعية.
أكتوبر لم يكن حربًا لاسترداد أرض فحسب، بل استعادة للكرامة العربية المسلوبة. ومن رحم تلك الحرب، وُلد جيلٌ عربيٌّ جديدٌ، يدرك أن الهزيمة ليست قدرًا، وأن النصر لا يُمنح بل يُنتزع.

ثانيا: أكتوبر 2023 – عبور الوعي وولادة المقاومة الكاملة

بعد خمسين عامًا بالضبط، في 7 أكتوبر 2023، خرج من غزة ما يشبه زلزالًا روحيًا وسياسيًا. لم تكن معركة جيوشٍ نظامية، بل ثورة وعيٍ من بين الركام والحصار.
الذين عبروا هذه المرة لم يعبروا قناة مائية، بل عبروا حدود المستحيل؛ حدود الخوف، والهيمنة، والتفوق العسكري المطلق.

طوفان الأقصى لم يكن حدثًا عسكريًا محضًا، بل حدثًا كونيًا في الوعي الإنساني.

سقطت صورة "الجيش الذي لا يُقهر”.

انكشف عمق التواطؤ الدولي مع الاحتلال.

واهتزّت مفاهيم "الردع” و”الأمن الإسرائيلي” التي بُنيت عليها عقود من الغطرسة.


هنا لم تعبر الدبابات ولا الطائرات، بل عبرت الإرادة والإيمان، لتقول للعالم: إن العدالة لا تموت، وإن الشعوب الصغيرة حين تؤمن بقضيتها، تُربك القوى الكبرى.

ثالثا: بين العبورين – من النصر العسكري إلى النهوض الوجداني

رغم الفارق الزمني بين الحدثين، فإنّ الرابط بينهما يتجاوز حدود الجغرافيا والتاريخ:

في 1973 عبر العسكر القناة،

وفي 2023 عبر الوعي الأسوار.


الأول أعاد إلى الأمة كرامتها،
والثاني أعاد إليها معناها.

لقد تحوّل مفهوم "المقاومة” من جهدٍ عسكري محدود إلى وعيٍ جمعيٍّ يؤمن بأن الحق لا يسقط بالتقادم، وأنّ الشعوب تصنع مصيرها مهما طال ليل الاحتلال.

بين الحربين، تغيّر كل شيء: الأنظمة، التحالفات، خرائط القوة، لكن ما لم يتغير هو نبض الإنسان العربيّ حين يُستفز شرفه وذاكرته.

رابعا: السياق الإقليمي والدولي – من الثنائية القطبية إلى عالم الفوضى المنضبطة

عام 1973 كان العالم يعيش في ظل الثنائية القطبية (أميركا والاتحاد السوفييتي).
أما عام 2023 فالعالم يواجه فوضى متعددة الأقطاب، حيث تضعف السيطرة الغربية وتتعاظم مقاومات الجنوب العالمي.

في الأولى، كانت الحرب وسيلة تفاوضٍ بين الأنظمة.
وفي الثانية، أصبحت المقاومة وسيلة خلاصٍ من الأنظمة ومن الاحتلال معًا.

تحوّلت القضية الفلسطينية من "ورقة تفاوض" إلى مركز للضمير الإنساني العالمي، وتحوّل المقاتل العربي من جندي نظامي إلى رمز للحرية العابرة للحدود.
الفصل الخامس: التحولات الفكرية والروحية – من عبور الماء إلى عبور المعنى

بين القناة التي عبرها الجنود عام 1973، والحدود التي اخترقها المقاومون عام 2023، مسافةٌ من النضج الوجداني في مفهوم البطولة.
لقد صار النصر ليس فقط في إسقاط الطائرات أو اقتحام التحصينات، بل في زرع فكرة أن المقاومة ممكنة وإن كانت محاصرة.

إنها عودة الروح التي بشّر بها توفيق الحكيم يومًا، لكنها اليوم روحٌ تقاتل وتكتب وتستشهد في الوقت نفسه.
عبور أكتوبر الأول كان عبور الجسد،
وعبور أكتوبر الثاني كان عبور الروح.

الخاتمة: من أكتوبر العبور إلى أكتوبر الصحوة

نصف قرن مرّ بين العبورين، لكن الرسالة واحدة:
أنّ الأمة التي تعرف كيف تنهض لا تموت،
وأنّ الوعي حين يستيقظ أقوى من كل جيوش الأرض.

لقد بدأنا عبور الماء في عام 1973،
وانتهينا إلى عبور المعنى في عام 2023،
حيث صار النصر حالةً روحيةً ووجوديةً تتجاوز الجغرافيا والسلاح.

وسيكتب التاريخ يومًا أن بين قناة السويس وأسوار غزة،
جسرًا من دمٍ وإيمانٍ
عبَرَ عليه العرب من الهزيمة إلى الوعي.
تابعوا نبأ الأردن على
تصميم و تطوير