عبد الهادي راجي المجالي يكتب : منذ متى نتشفى بالدم!
نبأ الأردن -
تابعت على قناة فضائية حوارا ، حول الاتفاق الأخير ، وقبول (ال م ق ا ومة) بخطة ترامب ...كان حوارا بين محلل سياسي ، يدافع عن قبول المبادرة وبين محلل اخر يمارس التشفي ....منذ متى نتشفى بالدم ؟
يقول بدر شاكر السياب في قصيدة أنشودة المطر :
أتعلمين أي حزن يبعث المطر ؟
وكيف تنشج المزاريب إذا انهمر
وكيف يشعر الوحيد فيه بالضياع
بلا انتهاء كالدم المراق ، كالجياع
كالحب كالأطفال كالموتى ، هو المطر !
حسنا ...هذه القصيدة تشرح ما بقلبي من وجع ، ولكن سؤالي الذي أرميه على الورق هو : منذ متى نمارس التشفي ؟ ..من منذ متى يتشدق البعض بروايات الهزيمة التي رموها على الفضائيات قبل عام ، ويعاتبون قلوبنا ويخبروننا بكل وقاحة وصلف : ..ألم نقل لكم ستهزم (ح م ا س) ...؟
منذ متى تعلو وجه ذاك الوقح الذي تعرى تماما من كل ضمير ومن كل المباديء ، تعلو وجهه ابتسامة ..ويخبرنا بأنه كان عبقريا وكان واقعيا ، ولكننا نحن الشعوب نتعلق بالعواطف ولا نسمع صوت العقل .
تلك ليست هزيمة ، ولكنها ما قاله بدر شاكر السياب : (كيف يشعر الوحيد بالضياع) .... لقد تركوا وحدهم ، والمزاريب لم تكن تحمل لهم المطر كانت تحمل الموت والجوع واليتم ، تركوا وحدهم والكل من خلف الستارة كان ينتظر النهاية ، تركوا وحدهم ، وحدهم ، وحدهم .
أخجل من الفضائيات العربية كثيرا ، والتي تحضر بعض المحللين لكي يتفاخروا بصدق روايتهم عن الهزيمة ، ويشمتون في قلوبنا ..يا ترى هل كنا حمقى حين وقفنا مع الحق ، منذ متى يلام العربي حين يقف مع بندقية تقاتل ..منذ متى يصبح العربي متهما ، حين يترحم على شهيد سقط وهو يفجر دبابة ؟ ..كيف أصبحنا في نظر هؤلاء أيضا مشكوك بالولاء الذي نحمله وبالإنتماء الذي في دمنا حين خرجنا في مسيرة وهتفنا للشهيد، وهتفنا لصبرهم وللقضية العادلة التي يقاتلون لأجلها ...كيف اصبحنا الفئة التي غرر بها ، حين قلنا : أنهم يستشهدون على أرضهم والقذائف تهدم منازلهم ، والجثث تدفن في حدائقهم ..هل كنا أغبياء ؟
أسال نفسي في كل ليلة : هل كنت كاذبا في الحروف التي قمت بحياكتها على مقاس دمعي ؟ هل كنت كاذبا في السهر والفرح حين تبث الجزيرة مقطعا ، يقفز فيه شاب على ظهر دبابة ويكبر ويضع القذيفة ثم يغادر ، لقد كبرت معه وقتها ...
نحن وقفنا مع قلوبنا ، في حين أن البعض وقف مع المصلحة والموقع ، وتفنن في الإنبطاح حد أن الأرض رمته من فوقها حتى لا تتسخ ذرات ترابها من انقلاباته نحن وقفنا مع ضمائرنا ، في حين أن البعض وقف من الدولار ، ومع الزمن الأمريكي الجديد ومع السيارة والعطايا ....نحن لم نقم ببيع النخل والبحر والتراب ، في حين أن البعض باع النخل والتراب والبحر ...ولو استطاع لباع ماتبقى من عرق في وجهه .
هؤلاء الذي هاجموا ( ا ل م ق ا و مة ) ومنذ أيام وهم يتبجحون على فضائيات (غراب البين) ...ويتفاخرون بأن توقعاتهم بشأن الهزيمة كانت صائبة ، هل يا ترى سيقفون مع الأردن إن مسه خطب ؟ هل يا ترى سيقفون مع سوريا إن اجتاحتها الدبابات ..أو هل سيذرفون دمعة حرى على لبنان إن أصابه مكروه ...إن قصة : كل دولة يجب أن تراعي مصالحا هي كذبة كبرى ، نحن في النهاية عرب ...وإذا كانت هذه الرواية يجب أن تقبل من قبل بعض محللي الفضائيات ، إذا لنقم بإلغاء دروس الجغرافيا من المناهج ، ليس مهما أن يعرف طلبتنا من أين ينبع النيل ..ليس مهما أن يقرأ طلبتنا أيضا الجواهري ، ولا نريد أن نقرأ شيئا عن الثورة السورية الكبرى ولا عن الزعيم سلطان باشا الأطرش ، نريد لعبدالقادر الحسيني أن يشطب من الذاكرة ....إذا كانت قصة الإلتفات إلى الداخل ضرورة ، وأن ما حدث في (غ ز ة) هو توريطة ، فلتشطب القضية الفلسطينية من خطابنا ، ولنعلم الجيل الحالي بأن كل النضال والكفاح والدماء التي سالت كانت مجرد هراء .
أنا لا أعرف كيف يقبل هؤلاء الذين يطلون على الفضائيات بممارسة التشفي ، هل يقرأون تعليقات الناس على حواراتهم ؟ هل يعرفون حجم الإحتقار من المشاهدين خلف الشاشة ، هل يدركون أنهم بهذا الخطاب إنما يبثون داء اليأس ، ويجعلون الهزيمة أمرا مستصاغا ، أنا لا أعرف كيف تقبل ضمائرهم بالترويج للهزيمة .
عل كل حال ألوف الروايات ستكتب في العالم العربي عن بطولة أهل (غ ز ة)، وألوف الأسئلة في العالم العربي ستبقى معلقة حول ضمائر البعض ، وحين يمر بعض جرحى المعركة من مطاراتنا ويأتون هنا للعلاج ..ستحتضنهم عيون الناس ، والكل سيتهافت من أجل التقاط الصور معهم ..وسنقبل الأرض التي تمشي خطاهم فوقها ، في حين أن الذي كتبوا وحللوا واجتاحوا الشاشات وبشروا بالهزيمة ، سيجدون وجوها ترمقهم بنظرة الإحتقار في المطارات ، وسيجدون ألف عين تخجل من رؤيتهم ..سيجدون أن مقاعد الطائرة ، حتى مقاعد الطائرة تخجل من حملهم .
.. الشتاء قادم ، حتى قطرات المطر ستخجل أن تمر على أجسادكم إن هطلت ...
أنا لا أعرف كيف وصلنا لمرحلة ، تسمح فيها الشاشات للبعض أن يسميها هزيمة ..وأن يتباهى بالهزيمة ...
أي بشر نحن ؟ ...
أتعلمين أي حزن يبعث المطر .
عبدالهادي راجي

























