د. وليد العريض يكتب: مجرم الحرب يخطب… والجميع يهرب
نبأ الأردن -
في قاعة الأمم المتحدة كان المسرح معدًّا بعناية: منصة عالية، ميكروفون لامع، أعلام معلّقة على الجدران، وكراسٍ تُلمّع لتشهد الخطب. لكن حين اعتلى نتنياهو المنبر، لم يجد أمامه إلا ظلال المقاعد، فالوجوه غادرت، والعيون أطفأت نظراتها، ولم يبقَ له إلا صدى صوته يرتدّ في الفراغ.
كان الرجل يتكلم كمن يخاطب نفسه في مرآة مظلمة. يلوّح بيديه وكأنها تقدر أن تمحو المجازر، يبتسم ابتسامة باهتة وكأن الدم لا يزال طريًّا على ثيابه. لم يحتج أحد إلى أن يقول له: أنت قاتل. فالمشهد نفسه كان لافتة ضخمة كتب عليها التاريخ: هذا هو مجرم الحرب الذي يتحدث إلى اللا أحد.
خروج الوفود كان احتجاجًا بليغًا في صمته، لكنه احتجاج مرتبك، كمن يرشق حجارة صغيرة على وحشٍ مدجّج ثم يهرب. لقد أرادوا أن يتطهروا بالغياب، لا بالحضور، أن يتبرأوا بأقدامهم، لا بألسنتهم. ومع ذلك، بدا الخروج أصدق من كل التصفيق المزيف الذي اعتادت هذه القاعات أن تنتجه.
أية مهزلة أعظم من خطيبٍ يخطب في كراسٍ فارغة؟ وأية سخرية أبلغ من زعيمٍ يتوهم أن سلطته تصنع له جمهورًا، فإذا بالهواء نفسه يشيح عنه؟ لقد تكلم الرجل، لكن المقاعد لم تُجب، تكلم أكثر، لكن التاريخ سجّل الخروج، لا الكلمات.
في تلك اللحظة، لم يعد نتنياهو قائدًا لدولة، بل بقايا رجلٍ يلاحقه العار أينما جلس، وأينما خطب. كل ربطة عنق يرتديها تصبح حبلًا يلف عنقه في ذاكرة الضحايا، وكل خطاب يلقيه يتحول إلى شاهدٍ جديد على الجريمة.
لقد هربوا جميعًا من أمامه، لكن الهروب الأكبر هو هروبه هو من نفسه، من صور الأطفال تحت الركام، من صرخات الأمهات، من أرواح لم يجد لها موضعًا في خطابه.
وهكذا، يبقى في النهاية: مجرم حربٍ يتحدث، والجميع يهرب.
د. وليد العريض – مؤرخ وكاتب صحفي

























