ا.د. حسن الدعجه يكتب: الصين: من الفقر إلى القوة العظمى في الذكرى الـ76 لتأسيس الجمهورية
نبأ الأردن -
في الأول من أكتوبر من كل عام تحتفل الصين الشعبية بذكرى تأسيسها، ويأتي هذا العام ليصادف مرور ستة وسبعين عامًا على قيام الجمهورية، وهي مناسبة تحمل في طياتها دلالات عميقة حول المسيرة الفريدة لهذه الدولة التي انتقلت في عقود قليلة من بلد فقير ممزق بالحروب والمجاعات إلى قوة عظمى تنافس على قيادة النظام الدولي وتفرض واقعًا جديدًا يقوم على تعدد الأقطاب بدلًا من الهيمنة الأحادية.
حين أُعلنت الجمهورية عام 1949 كانت الصين واحدة من أكثر الدول فقرًا وتخلفًا، إذ كانت نسبة الأمية مرتفعة والبنية التحتية متهالكة والدخل القومي لا يكاد يُذكر أمام القوى الكبرى. غير أن القيادة الصينية أطلقت مشروعًا وطنيًا طويل المدى يقوم على الاعتماد على الذات وبناء الصناعة وتطوير التعليم والصحة وتحقيق العدالة الاجتماعية. ثم جاءت إصلاحات أواخر السبعينيات بقيادة دنغ شياو بينغ لتفتح الباب أمام سياسة الانفتاح والإصلاح، فاستوعب الاقتصاد الاشتراكي آليات السوق، وفتحت البلاد أبوابها أمام الاستثمارات الأجنبية، وهو ما جعلها تدخل سباق التنمية بقوة وتتحول خلال أربعة عقود إلى "مصنع العالم".
اليوم تعد الصين ثاني أكبر اقتصاد عالمي بناتج محلي إجمالي يفوق 18 تريليون دولار، كما تصدرت التجارة العالمية وأصبحت رائدة في التكنولوجيا الحديثة، بدءًا من الذكاء الاصطناعي والاتصالات المتقدمة وصولًا إلى الصناعات المتطورة والفضاء. وفي الوقت نفسه لم تهمل البعد الاجتماعي، فنجحت في انتشال 850 مليون من الفقر المدقع الى الطبقة المتوسطة وأعلنت عام 2020 القضاء على الفقر المطلق، وهو إنجاز غير مسبوق يعكس دقة التخطيط وقوة الإرادة السياسية.
لم تكتف الصين بإنجازاتها الداخلية، بل تحولت إلى لاعب رئيسي في الساحة الدولية عبر مبادرات ضخمة مثل "الحزام والطريق" التي مدّت جسور التعاون مع آسيا وإفريقيا وأوروبا وأمريكا اللاتينية، لتؤسس شبكة ترابط عالمي جديدة. كما فرضت وجودها في المنظمات الدولية الكبرى وأصبحت ركيزة في تحالفات مثل البريكس، وهو ما أدى إلى ترسيخ نظام عالمي متعدد الأقطاب لم يعد فيه ممكنًا تجاهل الدور الصيني في أي قرار سياسي أو اقتصادي دولي. لقد أصبحت الصين قطبًا يوازن الكفة أمام الولايات المتحدة وحلفائها، مانحة دول الجنوب العالمي أملًا في نظام أكثر عدالة وتوازنًا.
منذ تولي الرئيس شي جينبينغ السلطة عام 2012 دخلت الصين مرحلة جديدة من الثقة والجرأة. فقد طرح رؤيته حول "الحلم الصيني" الهادف إلى نهضة الأمة وتجديد قوتها بحلول منتصف القرن الحادي والعشرين، ورسخ سياسات تجمع بين التحديث الاقتصادي والاستقلال التكنولوجي والقوة العسكرية الدفاعية والانفتاح الدبلوماسي الذكي. وقد أظهر شي جينبينغ حكمة في إدارة التوازن بين الداخل والخارج، فعمل على تعزيز النمو المستدام داخليًا والتصدي لمحاولات الاحتواء خارجيًا دون الانزلاق إلى صدام مباشر، معتمدا على التحالفات والدبلوماسية المرنة والبراغماتية السياسية. وبفضل قيادته استطاعت الصين الحفاظ على استقرارها وسط عالم مضطرب وتقديم نموذج تنموي بديل يجذب أنظار الكثير من الدول الساعية إلى التحرر من التبعية الاقتصادية والسياسية.
إن مسيرة الصين من الفقر إلى القوة تمثل واحدة من أعظم التحولات في التاريخ المعاصر. ومع حلول الذكرى السادسة والسبعين لتأسيس الجمهورية باتت الصين ركنًا أساسيًا في صياغة مستقبل العالم، إذ لم تعد مجرد قوة صاعدة، بل غدت قوة قائمة بالفعل ترسم ملامح نظام دولي متعدد الأقطاب. وفي قلب هذه النهضة تقف قيادة حكيمة برئاسة شي جينبينغ، الذي يقود الأمة الصينية بخطى ثابتة نحو تحقيق الحلم الصيني وبناء مجتمع مزدهر يتقاسم خيرات التنمية مع العالم.

























