د. وليد العريض يكتب:الغابة التي لا يُستجاب فيها الدعاء
نبأ الأردن -
حكاية الغابة التي أرهقها الصمت وأفترسها الكلب المسعور
في الغابة
البعيدة، حيث الأشجار تعانق السماء وتغني الطيور كل صباح، كان هناك همس لا ينقطع. دعاءٌ يعلو من أفواه كل المخلوقات، من أصغر نملة إلى أكبر فيل. كل عينٍ تتوسل، كل جناحٍ يرتجف، وكل قلبٍ يرفع رجاءه، لكن السماء تبقى صامتة. لم يكن أحد يجرؤ أن يقولها بصراحة، لكن الجميع كانوا يعرفون: هذه هي الغابة التي لا يُستجاب فيها الدعاء.
الكلب المسعور
في طرف الغابة، كان كلب مسعور يتجول، ينهش كل يوم ويزداد عطشه للدم. لم يعد يكتفي بفريسته المعتادة، بل صار يتسلل إلى بيوت الجيران. وحين واجهته الحيوانات باللوم، ضحك وهو يلهث: "أليس من حقي أن أعيش كما أشتهي؟" قالت البومة العجوز بحزن: "من ذاق الدم لا يشبع أبدًا". لكن الكلب لم يكن يسمع سوى صرير أنيابه.
الأسد الغرور المنبوذ
في قلب الغابة، جلس أسدٌ مغرور على عرشٍ من الوهم. كان يزأر ليل نهار، يذكّر الجميع بماضٍ كان فيه سيد الغابة، لكنه الآن لا يحكم إلا مجموعة من الضباع التي تقتات على الفتات. كان يتغنى بشجاعته القديمة، بينما يعرف الجميع أنه أسدٌ منبوذ، يبيع عرينه في كل صفقة. كلما سألوه: "أين شجاعتك اليوم؟" أجاب متباهيًا: "يكفيني أنني كنت ملكًا."
الثعلب الماكر
أما الثعلب، فكان أكثرهم حركة. يتنقل بين الكلب المسعور والأسد المنبوذ، يبيع الوهم هنا ويشتري الأمان هناك. يهمس للحيوانات: "المسألة ليست سوى تفاهمات… سلام… مصافحة تُنقذ حياتكم." لكنه كان يعلم أن كل مصافحةٍ يوقّعها بالخفاء تفتح جرحًا جديدًا في جسد الغابة. كانت عيناه اللامعتان تُخفيان خيانته خلف ابتسامةٍ ماكرة.
الحمار الصامت
في ركنٍ بعيد، كان الحمار يقف، أذناه طويلتان وظهره محمّلٌ بالأحمال. يسمع الصراخ ويرى الدماء، لكنه يظن أن صمته أمان. حذّرته البومة العجوز: "سيأتي يوم يصل فيه الكلب المسعور إلى بابك، فلن يحميك صمتك." لكنه هز رأسه وقال: "ما دمت بعيدًا فلن يمسني شر." ولم يدرك أن الصمت لا يحمي أحدًا.
الحمامة البريئة
بين الأغصان، كانت حمامة بيضاء تبني عشّها في كل مرة، ليهدمه الكلب في غارة مفاجئة. ومع ذلك، تعود لتبني من جديد. تغني وهي تبكي، فيغدو غناؤها مزيجًا من دموع وأمل. سألوها: "أما تعبتِ؟" فأجابت: "سأبني حتى آخر نفس، فربما يشفق عليّ الغد."
البومة الحكيمة
في أعالي الأشجار، جلست البومة تراقب. تعرف التاريخ كله، وترى ما لا يراه غيرها. كررت تحذيرها: "إنكم في غابة لا يُستجاب فيها الدعاء. السماء تسمع، لكنها تنتظر منكم فعلًا لا بكاء." غير أن كلماتها كانت تضيع وسط الضجيج، وكأنها رسائل في زجاجات تُلقى في بحرٍ بلا شاطئ.
الديك الذي يصرخ بلا جدوى
كل صباح، يعلو صوت الديك معلنًا: "انتبهوا! الكلب يقترب… الأسد يبيعكم… الثعلب يخونكم!" لكنه صار صوته عادةً لا تُسمع، أشبه بأذان بلا مصلّين. الحيوانات تمرّ بجانبه ولا تلتفت، كأنها نسيت أن التحذير لا قيمة له إن لم يتبعه فعل.
الدعاء الذي يضيع
مع حلول الليل، ترتفع الأيدي والعيون: "يا سماء أنقذينا… يا عدل تحققي." لكن الأدعية كانت تصطدم بسقفٍ من صمتٍ خانع وتعود هباءً. لم يدركوا أن السماء لا تستجيب لغابةٍ فقدت إرادتها، وأن الدعاء بلا فعل مجرد صدى يتلاشى في العدم.
الجثث الصامتة
في أطراف الغابة، ظهرت كائنات بلا روح. لم تكن جثث موتى فحسب، بل أحياء يسيرون بعيون مطفأة وألسنة مشلولة وأجساد متعبة. كانوا صورةً مدوّخة من مدنٍ صارت بلا حياة، من شعوبٍ تحولت إلى هياكل تمشي.
العار الذي يبتلع الجميع
سألت الحمامة البومة في ليلةٍ حزينة: "كم من العار سنبتلع قبل أن نختنق؟" فأجابت: "العار مثل الطين، كلما غصتَ فيه، غطّى وجهك أكثر، حتى يأتي يوم لا تستطيع فيه التنفس." عندها ارتجفت الحمامة، لكن بقية الحيوانات تصرّفت كأنها لم تسمع شيئًا.
الكلب يهاجم الجميع
لم يمض وقت طويل حتى أثبت الكلب نبوءة البومة. لم يكتف ببيت الحمامة ولا بأشجار القردة، بل هاجم في كل الاتجاهات. صار يلهث جوعًا، ينهش بلا حساب. وعندما وصل إلى عرين الحمار الصامت، أدرك الأخير أن صمته لم ينقذه، لكن بعد فوات الأوان.
الحقيقة الأخيرة
في يومٍ مشؤوم، اجتمع الجميع تحت شجرة السنديان العجوز. قالت البومة بصوتٍ متهدج: "الغابة لا تُنقذها الأدعية، بل الأقدام حين تمشي، والأيدي حين تعمل، والقلوب حين تتوحد. إن لم تنهضوا، فسيكتب التاريخ أنكم عشتم في الغابة التي لا يُستجاب فيها الدعاء." ساد صمت طويل، كأن الكلمات مسّت جرحًا عميقًا. ثم رفرفت الحمامة بجناحيها وقالت: "فلننهض قبل أن نصبح كلنا جثثًا صامتة."
في تلك اللحظة، فهمت الحيوانات أن السماء لا تغلق أبوابها، لكنها تنتظر لحظة الفعل، لا لحظة الدموع. وربما كان هذا أول بصيص ضوء في الغابة التي لم يُستجب فيها الدعاء يومًا.

























