أ.د.حسن الدعجه يكتب: قراءة في كتاب: دراسة الصادرات والاستثمارات الصينية في الشرق الأوسط من منظور النظم غير الرسمية
نبأ الأردن -
بوصفي باحثًا عربيًا مهتمًا بالعلاقات الاقتصادية الدولية، حظيت بفرصة الاطلاع على ملخص باللغة الانجليزية لكتاب جديد للدكتور وانغ شياويو، الصادر في أكتوبر 2024 عن دار النشر للعلوم الاجتماعية الصينية تحت عنوان «دراسة الصادرات والاستثمارات الصينية في الشرق الأوسط من منظور النظم غير الرسمية» باللغة الصينية. ولا شك أن هذه الدار تُعدّ من أبرز المؤسسات الأكاديمية في الصين، لما تتمتع به من مصداقية واسعة وحضور مؤثر في الأوساط البحثية. ومن خلال قراءة متأنية، أستطيع القول إن هذا العمل لا يقتصر على التحليل الاقتصادي الصرف، بل يفتح أفقًا معرفيًا وإنسانيًا يتجاوز النماذج التقليدية، ليقدّم رؤية شاملة حول أبعاد التفاعل الصيني–العربي. أهمية الكتاب في السياق الراهن منذ انعقاد القمة الصينية–العربية الأولى في ديسمبر 2022، أصبح جليًا أن مسار التعاون بين الجانبين يشهد تطورًا نوعيًا. وقد جاء الاحتفال في مايو 2024 بالذكرى العشرين لتأسيس منتدى التعاون الصيني–العربي ليعكس عمق هذا التوجه واتساعه. ومع اقتراب القمة الثانية المرتقبة في الصين عام 2026، يكتسب هذا الكتاب أهمية مضاعفة؛ إذ يقدم مادة معرفية رصينة تصلح أن تكون مرجعًا أكاديميًا للباحثين، وأداة عملية لصانعي السياسات في آن واحد. مساهمة نظرية ومنهجية جديدة : أبرز ما يميز الكتاب أنه يقدم قراءة مبتكرة من حيث الإطار النظري والمنهجي. فمعظم الدراسات السابقة حول العلاقات الاقتصادية بين الصين والعالم العربي انحصرت في قضايا الطاقة والسياسات الرسمية والاتفاقيات الحكومية، بينما ظلّت الأبعاد غير الرسمية كالعوامل الثقافية واللغوية والقيمية على الهامش. غير أن الدكتور شياويو يقدّم مقاربة مغايرة، إذ يضع النظم غير الرسمية في قلب التحليل، مستندًا إلى المدرسة المؤسسية الجديدة التي تؤكد على دور العوامل «الناعمة» في تشكيل التفاعلات الاقتصادية. الكتاب يوظف أدوات كمية ونماذج قياسية لقياس الفجوات اللغوية والاختلافات الثقافية وتباينات القيم بين الطرفين. ومن خلال هذه الأدوات، يبرهن المؤلف على أن النظم غير الرسمية ليست مجرد تفاصيل ثانوية، بل هي عنصر جوهري يحدد مستوى نجاح أو تعثر التعاون الاقتصادي. وبذلك، لا يملأ الكتاب فراغًا معرفيًا فحسب، بل يفتح أيضًا مسارًا جديدًا أمام الباحثين في مجالات الاقتصاد الدولي ودراسات الشرق الأوسط. البعد التطبيقي: التحديات والفرص: من الناحية العملية، يلفت الكتاب الانتباه إلى أن العقبات التي تواجه مبادرة «الحزام والطريق» لا تقتصر على الرسوم الجمركية أو الإجراءات الرسمية، بل تمتد إلى صعوبات التفاهم والتواصل. ويعرض المؤلف نماذج ملموسة مثل معرض الصين–الدول العربية في نينغشيا، وشبكات التجارة العربية في مدينة ييوو الصينية، ليبين كيف تسهم النظم غير الرسمية في تيسير التعاون أو تعقيده. هذا التحليل يلامس واقع القارئ العربي، إذ يوضح أن نجاح أي مشروع اقتصادي طويل الأمد يرتبط بتعزيز الثقة المتبادلة وتطوير بيئة مؤسسية قائمة على الفهم الثقافي والاجتماعي. فالسياسات والاتفاقيات، مهما كانت متينة، لا تكفي وحدها لضمان استدامة التعاون من دون بنية ناعمة داعمة، تشمل التعليم والتبادل الثقافي والانفتاح الاجتماعي. البعد الاستراتيجي: رؤية للمستقبل : على الصعيد الاستراتيجي، يتزامن صدور هذا الكتاب مع مرحلة دقيقة تعيشها الدول العربية، حيث تسعى بجدية إلى تنويع اقتصاداتها وتعزيز شراكاتها الدولية. ويؤكد المؤلف أن النظم غير الرسمية تمثل ركيزة أساسية لإنجاح التعاون ضمن مبادرة الحزام والطريق، إذ تكمل «الربط الصلب» المتمثل في البنية التحتية والتمويل، بـ«الربط الناعم» المتمثل في الثقة المتبادلة والانسجام الثقافي. هذا الطرح يعكس فهمًا عميقًا لأولويات التنمية العربية، كما يتسق مع المسار الطويل الذي خطّه منتدى التعاون الصيني–العربي على مدى عقدين من الزمن. ولعل أبرز قيمة مضافة للكتاب أنه يقدّم إطارًا مؤسسيًا يمكن الاستناد إليه في تحسين الحوكمة التعاونية، وزيادة فاعلية آليات التنفيذ، بما يتيح للعلاقات الصينية–العربية أن تنتقل من مجرد تبادل تجاري إلى شراكة استراتيجية متكاملة. يمكن القول إن كتاب «دراسة الصادرات والاستثمارات الصينية في الشرق الأوسط من منظور النظم غير الرسمية» يشكل إضافة نوعية على المستويين النظري والتطبيقي. فمن حيث النظرية، يقدّم مقاربة مبتكرة تدمج الاقتصاد بالثقافة واللغة والقيم الاجتماعية. ومن حيث التطبيق، يعرض نماذج واقعية تثبت أن بناء التعاون لا يمكن أن ينجح دون إدماج النظم غير الرسمية في الحسابات الاستراتيجية. إن القيمة الكبرى لهذا الكتاب تكمن في كونه جسرًا معرفيًا بين العالمين العربي والصيني، يتيح للباحثين إعادة التفكير في آليات التعاون، ويزود صانعي القرار بأفكار عملية لتخفيض تكاليف المعاملات وتعزيز جودة الشراكات. ومع اقتراب انعقاد القمة الصينية–العربية الثانية، يبدو هذا العمل مرجعًا لا غنى عنه لكل من يسعى إلى فهم مستقبل العلاقات الصينية–العربية والمساهمة في الارتقاء بها إلى مستويات أعلى من العمق والاستدامة.

























