د. بشير الدعجه يكتب: ساعتان في العالم السفلي

{title}
نبأ الأردن -
قبل فترة وصلتني عزومة من زلمة بعرفه… ما بيني وبينه إلا كل خير... صاحب مهنة بستعين فيه كل فترة بصيانة أو إصلاح... وما شفت منه إلا الاحترام والأخلاق... ابن أصل وواجب إنك تحترمه... بس المشكلة إنو عرسه كان بأحد الأحياء الشعبية بعمان… والأحياء الشعبية اللي إلها سمعة مش سهلة: جريمة، مشاكل، وأصحاب أسبقيات...وظروفه المسكين حذفته العيش في هذا المكان...

قلت لحالي: "الزلمة إله حق عليّ... وما بتركه... بروح بعمل الواجب وبنقّط وبرجع."

وصلت الصيوان… أول ما وقفت... عقلي الأمني اشتغل لحاله... مسح أمني سريع للحضور و المكان … أقل من دقيقة... بس كان كافي يخليني أحس إني نزلت على العالم السفلي! وجوه غريبة… ندوب على الخدود، جروح قديمة برقاب، خطوط موس وشفرة مرسومة تحت الآذان... غير العضلات المنفوخة والدق اللي مغطّي الأذرع والرقاب ... منظرهم لحاله بخليك تتشنج.

العريس شافني... وقف فرحان... رحّب فيي بضحكة من القلب... عرّفني على أهله... وبدا عليه مبسوط إني جيت... احترمت هالشي وجلست... بس الصراحة… جلوسي كان جسد بلا روح.

وأنا جالس... بلشت أسمع الحكي اللي حوالَي:

واحد بيحكي: "من الصبح وأنا من مشكلة لمشكلة!"

الثاني بيرد عليه: "المتصرف فارض عليّ إقامة جبرية ست شهور."

الثالث مبسوط وهو بقول: "اليوم زرت فلان بالسجن وحطّيتله بالأمانات 30 دينار."

الرابع ضاحك: "اليوم التنفيذ الفضائي كانوا بدهم يمسكوني."

أنا قاعد وبقول لحالي: "يا لطيف… هاظ مش عرس… هاظ جلسة لمركز إصلاح وتأهيل... بس بدون ضباط وسجانين!" كل واحد عنده قصة أتعس من الثاني... وبتحس الفخر مش بس باللباس... حتى بالسوابق.

الموسيقى عالية… الدبكات مولّعة… بس أنا شايف بعيني غير اللي سامعه وذاني... شايف عالم عايش خارج القانون... بس بنفس الوقت… عندهم كاريزما غريبة... الواحد فيهم وهو بحكي قصته... بتحس كأنه عم يتباهى فيها قدام رفقاته.

الدخان مالي الجو… ريحة أراجيل... ريحة دخان، وريحة كحول متنكرة بقناني مي وعلب عصير ... صيوان العرس مش بس مكان فرح… كان ساحة عرض لسجلات جرميّة مفتوحة.

وأنا قاعد... قلبي بيدق أسرع… كل حركة حوالَي محسوبة... طفل صغير يركض بين الكراسي؟ بعمل حسابه كأنه  أحد الزعران ... زلمة قام فجأة؟ عيني بتلحقه... أي إشي ممكن يتحول بلحظة لمشكلة.

بس بنفس الوقت… ضميري ما سمحلي أترك من أولها... العريس كان مصرّ على حضوري... وفرح بيّني واضح... ومش حاب أجرحه.

مضت الساعة الأولى… بعدها الثانية... أنا مش قاعد مرتاح ... أنا متوتر، متحفز... كل كلمة بسمعها من اللي حوالَي... بتأكدلي أكثر إنّي موجود وسط عالم غير عن العالم اللي متعود عليه... عالم إلهم قوانينهم... إلهم لغتهم... وإلهم أسلوب حياتهم الخاص… عالم ما بعترف بالحدود الطبيعية...عالم سفلي..

ولما شفت الوقت صار مناسب… قررت أنسحب... ما حبيت أمشي من الباب الرئيسي حتى ما يزعل العريس… لهيك طلعت بهدوء من فتحة بالصيوان جانبية... وكأني حدا مزط  وهرب من المكان.

ركبت سيارتي… أول ما سكرت الباب... أخدت نفس طويل… كأني رجعت أتنفس هوا طبيعي... حسّيت إني رجعت للحياة بعد ساعتين كنت فيهم مسجون داخل "العالم السفلي"... ساعتين بس… بس تركوا جوّاي شعور إني زرت قارة مظلمة مش موجودة عالخريطة.

رجعت بيتي... وأنا بقول بيني وبين نفسي: "قديش في عوالم موازية حوالينا؟! ناس عايشة معنا بنفس المدينة... بس حياتهم قانونها غير... تفكيرها غير ... ونهايتها غير."

تجربة  مريرة مرعبة… بس بنفس الوقت... كانت نافذة صغيرة على واقع كثير من الناس ما بشوفوه... وصدقًا… ساعتين بهيك مكان بيكفوا إنك تحمد ربك ألف مرة... إنك عايش بحياة طبيعية... بعيد عن ذاك العالم الأسود...العالم السفلي...

#د. بشير _الدعجه
تابعوا نبأ الأردن على
تصميم و تطوير