د.محمد بني سلامة يكتب : رجال الدولة.. ليسوا رؤساء وزارات فقط!
نبأ الأردن -
ثمة وهم راسخ في أذهان البعض أن رجال الدولة هم فقط رؤساء الوزارات، وكأن الدولة الأردنية بمؤسساتها العريقة اختُزلت في مكتب رئيس الوزراء وعدد من الوزراء. هذه نظرة قاصرة ومضللة في آن واحد، فالحقيقة أبعد وأعمق. رجل الدولة هو كل من تولّى موقع مسؤولية في مؤسسة من مؤسسات الدولة، مهما كان حجمها أو طبيعتها: رئيس حكومة، رئيس جامعة، وزير، سفير، نائب، عين، مدير عام، مسؤول حزبي أو حتى زعيم عشيرة كان له دور في لحظة مفصلية. كل هؤلاء حملوا على عاتقهم أمانة الموقع الرسمي، وأصبحوا جزءاً من ذاكرة الدولة ومسيرتها.
لكن المدهش – والمثير للسخرية في آن – أن كثيراً من هؤلاء، حين يغادرون الكرسي، يتقمصون دور "المحلل الاستراتيجي" أو "الخبير العارف ببواطن الأمور". نسمع تصريحاتهم فنكاد لا نصدق أن هذا المتحدث كان يوماً مسؤولاً! حديث باهت، متناقض، غير مقنع، وأحياناً مشكوك في صحته أو خالٍ من أي قيمة معرفية أو سياسية. يخطر ببالي سؤال ساخر: هل هؤلاء كانوا فعلاً يديرون مواقعهم أم كانوا مجرد زينة بروتوكولية في صورة جماعية؟
ولكي أكون أكثر صراحة: هذا الطراز من المسؤولين أصغر بكثير من المواقع التي شغلوها. المناصب بدت عليهم كالبذلة الواسعة على الجسد النحيل: لا مقاس يناسبهم، ولا قدرة على ملئها، ولا حتى احترام لمكانتها. كرسي الدولة أرفع وأكبر منهم، لكنه ابتُلي بهم زمناً، ثم كشفهم حين تكلموا بعد مغادرته.
بعضهم لا يترك مناسبة إلا ويطلق فيها تصريحات ممجوجة، تنقصها الحجة والمصداقية، أو مليئة بالاتهام والشيطنة والإساءة لمؤسسات الدولة التي خدم فيها. وهنا أجد نفسي مضطراً للقول: صمتكم أجمل بكثير من أحاديثكم. ففي أحيان كثيرة يكون الصمت أكثر نفعاً وقيمة من كلام يجرح الحقيقة، ويفتقر إلى المنطق، ويثير الشكوك حول نزاهة المرحلة التي كنتم جزءاً منها.
أما الإعلام عندنا، فحدّث ولا حرج! ملف إعلامي "أقل بكثير" من المستوى المطلوب، ومشهد يبعث على الحيرة: نفس الوجوه تتكرر على الشاشات بلا توقف، تتحدث عن كل شيء: من السياسة إلى الاقتصاد، ومن الرياضة إلى الفن والموسيقى، حتى تكاد تظن أن لدينا موسوعة بشرية خارقة لا تنضب. والحقيقة أنها موسوعة مملة، متواضعة، بلا إبداع، ولا تجديد. كأن الإعلام يعيش في حلقة مفرغة، يكرر نفسه بنفسه، ويقدّم للناس سلعة قديمة في عبوة جديدة.
إننا اليوم بأمسّ الحاجة إلى إعلام دولة حقيقي، لا إعلام أشخاص أو مصالح. إعلام لا يرتجف أمام الأصوات الجريئة، ولا يخشى الرأي المختلف، بل يفتح نوافذه للهواء النقي: للرأي والرأي الآخر. إعلام وطني واثق بنفسه، يعبّر عن الناس لا عن رغبات بعض المتنفذين، ويعكس صورة الدولة بثقة لا بارتباك.
وما يزيد الطين بلّة أن بعض هذه الوجوه الإعلامية لا تمتلك الأدوات ولا المعرفة الكافية، لكنها "تتسيّد" المنابر لمجرد أنها صاحبة علاقات أو صداقة مع معدّ البرنامج أو مدير القناة. في النتيجة: خطاب إعلامي فارغ، سطحية في الطرح، وإرهاق للمشاهد الذي ما عاد يثق بما يسمع.
في المقابل، ثمة نماذج مشرفة ترفع الرأس. هنا أجد لزاماً أن أوجّه تحية صادقة لمعالي نائب رئيس الوزراء ووزير الخارجية أيمن الصفدي. هذا الرجل أثبت أنه رجل دولة حقيقي، يعرف معنى أن تمثل الأردن، ويدرك قيمة أن تدافع عن الموقف الأردني في المحافل الدولية. لم يكتفِ بنقل الرواية الأردنية، بل قدمها ببلاغة واقتدار، مثبتاً أن الدبلوماسية الأردنية لا تزال قادرة على الحضور بقوة واحترام في أصعب الساحات.
الخلاصة: رجل الدولة ليس لقباً ولا كرسيّاً، بل موقف وسلوك ومسؤولية. كل من تولى موقعاً رسمياً هو رجل دولة شاء أم أبى، لكن الامتحان الحقيقي يبدأ بعد مغادرته المنصب: هل يبقى وفياً لقيم الدولة التي خدمها؟ أم يتحول إلى متحدثٍ مرتبكٍ باهتٍ يزيد المشهد ارتباكاً؟
لقد آن الأوان أن نعيد تعريف مفهوم "رجل الدولة" بوعي ومسؤولية، وأن ندرك أن الأردن أكبر من أي شخص وأكبر من أي منصب. رجال الدولة الحقيقيون هم الذين يُسهمون في بناء ثقة الناس بمؤسساتهم، لا في هدمها بتصريحات متناقضة وسجالات رخيصة.

























