حسين هزاع المجالي يكتب : هزاع المجالي... رجل الدولة الذي عبر زمنه وسبقنا جميعاً
نبأ الأردن -
في كل عام، ومع اقتراب ذكرى التاسع والعشرين من آب، نفتح في القلب باباً للحزن النبيل، ونقف إجلالاً أمام ذاكرة رجلٍ لم يكن عابراً في زمنه، بل كان هو الزمن نفسه... زمن الكرامة، والانتماء، والعمل الصادق.
في مثل هذا اليوم من العام 1960، صمتت شوارع عمان فجأة على وقع انفجارات الغدر التي استهدفت دولة الشهيد هزاع بركات المجالي، فكانت الشهادة قدر رجلٍ آمن بالوطن حتى آخر نفس، ووهب روحه من أجل كرامته ووحدته واستقراره.
هزاع، لم يكن اسماً عابراً في السياسة، بل كان عنواناً للرجولة الأردنية في أصدق تجلياتها؛ دمث الخُلق، واسع الصدر، قريب من الناس، وصاحب رؤية لا تبحث عن مجدٍ شخصي، بل تنشد مجداً للوطن كله. عُرف باستقامته، وشجاعته، وقدرته على اتخاذ القرار في أحلك الظروف، وكان يؤمن أن العمل العام مسؤولية لا وجاهة، ورسالة لا مكاسب.
ابن الأرض وأخو الناس
وُلد هزاع في ماعين، ونشأ في الكرك، على أرضٍ تعرف معنى العزة، وترابٍ لا يُثمر إلا رجالاً. لم يتعلم الوطنية من كتب، بل من مشهد الفقر والكرامة الممتزجين، ومن حكايات الثورة العربية الكبرى التي عاشها من بيت أبيه، وتشرّبها من تراب الجنوب.
كان صوته حاداً حين يستوجب الموقف وضوحاً، وهادئاً حين تحتاج النفوس طمأنينة. لم يكن باب مكتبه مغلقاً، ولا قلبه بعيداً عن نبض الناس. والاثنين الذي خصصه لاستقبال المواطنين، لم يكن يوماً بروتوكولياً، بل طقساً إنسانياً يرى فيه المسؤول وجهاً لوجها مع من يُفترض أنه في خدمتهم.
الشهادة: لحظة عابرة... أم ولادة نهج؟
ظن القتلة أنهم باغتياله سيغتالون الحلم، لكنهم نسوا أن الفكرة لا تموت، وأن الأوطان التي تبنى على دماء المخلصين لا تهتز. فقد ظل اسم هزاع محفوراً في وجدان الأردنيين، لا لأن موته كان مأساوياً، بل لأن حياته كانت عظيمة.
استشهاده لم يكن خسارة رجل، بل اختباراً لهوية وطن. فكان رد الأردنيين بالحزن الجليل، والعهد الصادق بأن يبقى هذا الوطن عزيزاً كما أراده، حُراً كما ناضل لأجله، ومستقراً كما سهر على سلامته.
إرثٌ من النقاء والمسؤولية
إن الحديث عن هزاع المجالي لا ينفصل عن الحديث عن الأردن نفسه، عن التأسيس، عن الصبر، عن الانتقال من الخيمة إلى الدولة، ومن الحلم إلى النظام. فقد كان هزاع من أولئك الذين بنوا بأسنانهم، وحملوا الوطن على أكتافهم، ولم يسألوا عن الثمن.
كان إيمانه عميقاً بأن هيبة الدولة لا تُصنع بالخُطب، بل بالفعل النزيه، وأن السياسة ليست مهنة من لا مهنة له، بل حرفة من يعرف حدود الله، وحقوق الناس.
أبٌ وإنسان... قبل أن يكون مسؤولاً
بعيداً عن الألقاب والمناصب، كان هزاع المجالي أباً حنوناً، وصديقاً صادقاً، وزوجاً وفياً، يفيض إنسانية في كل تفاصيل حياته. في بيته كما في مكتبه، لم تكن الكراسي عنواناً للسلطة، بل للضيافة. لم يورّث أبناءه ثروة، بل ورثهم اسماً ناصعاً، وشرفاً كبيراً، وتاريخاً لا يشوبه غبار.
وفي كل حديث عنه، لا بد أن يمر الناس على تواضعه، على بساطته، وعلى حبه الصادق لهذا الشعب الذي بكى عليه كما لم يبكِ على أحد.
هزاع المجالي... المعنى الذي لا يُنسى
نحن لا نرثي هزاع المجالي لأنه استُشهد، بل نرثيه لأنه كان مختلفاً في زمنٍ لم يكن فيه الاختلاف سهلًا. نرثيه لأنه ترك فراغاً لا يملأه منصب، ولا يعوّضه خطاب. نرثيه لأننا نحتاجه اليوم أكثر من أي وقت مضى، كنموذج لرجل الدولة الصلب، الصادق، القريب من الناس، والمخلص لوطنه دون حسابات ضيقة.
أتعهد أن أسير على خطاه...
وفي حضرة ذكراه، ووجدان سيرته، أقولها، لا من باب المجاملة، بل من عمق الشعور والمسؤولية:
أعدك يا أبي، أن أبقى على عهدك، أن أظل متمسكاً بالمبادئ التي علمتنا إياها، وأن أسير على ذات الطريق التي رسمتها بصدقك، وعملك، وتضحيتك.
لن أحيد عن نهج الوطنية النقية، ولا عن حب الأردن الذي كان دليلك في كل قرار. سأحمل اسمك بصدق، لا كعنوانٍ لمجدٍ عائلي، بل كمسؤولية يومية، تُلزم صاحبها بأن يكون على قدر الإرث، وعلى قدر المحبة التي غمرت بها قلوب الناس.
رحمك الله يا هزاع، أيها الرجل الذي بقي حيّاً في ضمير وطن، وغيابه ما زال يعلّمنا كل يوم، كيف يكون الإنسان رجل دولة... وكيف يكون الشهيد، باقياً.
رحمك الله، أبتاه، وجعل ذكرك حيّاً كما كنت في حياتك، نبراساً لكل من يتعلّم اليوم كيف يكون الانتماء، وكيف تكون الشهادة خاتمة تليق بمن عاش عمره كله شهيداً للواجب، وشهيداً للحقيقة.

























