ميسر السردية تكتب :ثلاثية خالد إسماعيل... الهويات المقهورة، الاستغلال والبحث عن الحرية

{title}
نبأ الأردن -
يقول المفكر إدوارد سعيد: "إن الاستحواذ على التاريخ والقبض على الماضي بوصفه تاريخًا، أو تحويل المجتمع إلى رواية، تحكي كلها عناصر تعطي الرواية قوتها". ويقدر الفيلسوف والناقد جورج لوكاتش أن النموذج الروائي يتحقق برسم شخصيات ذات ملامح ذهنية، لها مفهومها في الوجود، وأسلوب تفكير يحكم سلوكها وعلاقاتها بالآخرين والمجتمع وبالقضايا الكبرى لعصرها.

رؤية المفكرين أعلاه هي الرؤية التي انبثقت منها أعمال ثلاثة تشكلت من أجناس أدبية، تضمنت القصص القصيرة في "غرب النيل"، وقصص رواية النوفيلا في "مقتل بخيتة القصاصة"، ورواية "أبو القمصان" للأديب والصحفي المصري خالد إسماعيل، الذي قدم خلال مسيرته الأدبية ما يقرب من ستة عشر عملاً بين رواية ومجموعة قصصية ودراسة حتى الآن.

اتسمت هذه النتاجات الأدبية بتكثيف خصوصية الشخصيات والمجموعات الإنسانية المختلفة والمتضادة، بحيث تمت الإضاءة على الملامح والمشكلات المميزة للحظة التاريخية، مما شكل سجلاً لتجربة الجماعة عبر وثبات زمنية، وشَرَح صراع الهويات الفرعية، والطبقية الاجتماعية، والطائفية، والمظاهر الدينية الشعبية، والفئات النضالية، والصور النمطية عن الآخر من خلال الحقل الروائي للأعمال التي قدمت الشخصيات الاستغلالية والمستغَلة والمنكفئة حينًا، والمتمردة على واقعها حينًا آخر، حسب منظورها وأساليب تفكيرها.

تشكلات التدين الشعبي والطقوسي:
في مجموعة "غرب النيل"، تكاد تكون ثيمة "التدين الطقوسي" والشعبي السطحي الذي يخلط بين النص المحقق والموثق مع المتخيل الموروث، ميزة طبعت أفكار وتصرفات الشخصيات الرئيسة والثانوية شبه الواعية أو الجاهلة، ومن ثم طريقة تفاعلها ومعالجة مشكلاتها وتعاطيها مع واقع حياتها وبيئتها.

فما أن يبدأ الاستهلال بذكر سيرة الشيخ أحمد الطيب الثائر على الظلم والعسف زمن الخديو إسماعيل، حتى ينزاح هذا النموذج لتسود المشهد عقليات مغايرة وسلوكيات مزدوجة لـ"مشايخ" الدروشة والنفاق والاستكانة، الحاضرة في معظم القصص؛ بحيث يتجلى التدين الطقوسي من خلال الفصل بين الالتزام الحقيقي بأخلاق الدين وقيمه الجوهرية، والحياة الخاصة، في إسقاط أقرب ما يكون إلى "أعط ما لقيصر لقيصر وما لله لله". يرافق ذلك التشبث بالممارسات الخرافية والمعتقدات الشعبية، كزيارة الأضرحة، والتبرك بالأولياء، والموالد، والشعوذة، وحفلة الزار، والاستعانة بالعوالم الخفية.

ففي قصة "نعش الميت المبروك يتحرك وحده"، وشيخ يمزج بين الوعظ والعرافة، ولص يبرر سرقته راديوًا للاستماع للقرآن، وقضاء وقدر كتب على امرأة تسرق فقطعت يدها في موسم الحج، وشخص يصف شيخًا بالعالم لكنه أعمى القلب، وآخر يقول: "الجامع جامعنا، واللي مش عاجبه ما يدخلش".

أما البر والإحسان والاتساق بين الأفعال والأقوال، فهي قيم لا مكان لها في سلوكيات الشيخ جوهر الذي يحابي السلطات وينافق ويقطع الرحم ويقمع أسرته في رواية "أبو القمصان".

التوتر الطائفي وتوظيف المنبر الديني:
في "غرب النيل"، يلامس خالد إسماعيل تناحر الفرق الدينية في الإشارة عندما حرم الشيخ عابد أبو لواية الناس في خطبة الجمعة التوسل بالأموات والأولياء والأضرحة؛ ليعترض عليه شيخ "الطريقة السعدية" الصوفية معاتبًا على تلك الخطبة، والذي يُقتل لاحقًا على يد مريديه الذين فسروا ظاهريًا مقولته الباطنية عندما قال لهم في إحدى الخلوات: "معبودكم تحت رجلي"، ليتبين لهم أنه قصد كنزًا مدفونًا عثروا عليه بعدما زار أحدهم في الرؤيا، فبنوا له مقامًا كسوه بالأقمشة الخضراء، ثم صاروا يتوسلون به ويتبركون ببركته.

من جهة أخرى، يتمظهر التوتر الديني بين المسلمين والأقباط، تبعًا لقوة الأقلية والأكثرية للمجموعة السكانية في قرية ما؛ فنجد وقوع إشكال ما بين عائلة قبطية وأخرى مسلمة بسبب تافه، مما يوجب تدخل القمص سمعان الذي يحاول تهدئة الموقف مستشهدًا بالسور القرآنية (مريم، وآل عمران)، ومساندته من قبل دكتور قبطي بحديثه عن حبه للاستماع لمشاهير القراء (كعبد الباسط والمنشاوي)، مما يؤدي لإنهاء التشنج والمصالحة بين كلا الطرفين. في حين بلغ التوتر ذروته في ذكر قضية فتنة (الزاوية الحمراء بين الأقباط والمسلمين عام 1981) التي أريقت فيها الدماء. ورغم ذلك، لا يخلو القصص من تصوير علاقات تسامح وتعايش تتجاوز التشنج غير المنطقي، في قصة "قفص الفروج" التي تشير إلى المصير المشترك للصديقين المسلم والقبطي.

استثمار "الصوت والمنبر الديني" فيتجلى عندما يلقب السارد صفحات الجريدة التي تنشر مجموعة صور عائلية مختلفة للسادات في بيته وحديقته، ومع بيجن وكارتر في كامب ديفيد. وفي صفحة تقابل الصور، يقرأ تصريحًا للشيخ الشعراوي يقول فيه: "الشورى غير ملزمة" فإذا عزمت فتوكل على الله"، إشارة على تبرير اتفاقية السلام مع الكيان الصهيوني.

يتضح توظيف المنبر في الشأن السياسي في قصص "مقتل بخيتة" من خلال تدخل الدولة في توجيه خطباء المساجد؛ بهدف التأثير بعقول القرويين من خلال توجيههم لتشويه الذين لا ترغب الحكومة بفوزهم بالانتخابات البرلمانية، كاتهام أحدهم بالكفر والإلحاد.

الانتهازية النضالية والانسحاب إلى الظل:
تسقط الأقنعة الخادعة عن الشخصيات الانتهازية النضالية في "مذكرات رفيق"، التي نشرت عقب وفاته، وكشف فيها "صابر نعمان" زيف شعارات المناضل "فوزي الغندور" الذي كان ينقل البندقية من كتف لآخر، مستغلًا آمال البسطاء ورغبة المهمشين بتغيير واقعهم السياسي والاقتصادي والاجتماعي. فالغندور يمرق كالسهم عابرًا المراحل من القومية إلى الحزب الشيوعي فالحزب الوطني الحاكم نهاية المطاف. ويشير كاتب المذكرات إلى هدفه بتسجيل شهادته للأجيال على نقص وعيهم وخبرتهم، وكيف كانوا ضحية للزيف وفساد الأحزاب التي لا علاقة لقادتها بما يرفعونه من شعارات، وكانت بمثابة وسيلة للثراء لبعضهم، كالغندور الذي كدس عقارات وأموالاً وحسابات مصرفية داخل البلاد وخارجها.

قصة "سيرة مناضل" تصدم رفاق ومؤيدي (قدري التوني) الذين قرروا إصدار عدد صحفي خاص تكريمًا له في ذكرى أربعين وفاته. حيث كان نجمًا تلفزيونيًا يرفع شعارات نصرة العراق ودعم غزة ورفض اتفاقية كامب ديفيد. وجاءت المفاجأة عندما زار صحفي قرية التوني لإعداد ريبورتاج، فتبين له أن المناضل كان منقطعًا عن أسرته، عاقًا لوالده، مستوليًا على ميراث إخوته بعقود مزورة.

بعد سقوط الرمز، تروى حالة مناضل هدّه اليأس، فقرر تسوية معاشه مبكرًا، منسحبًا إلى الظل، منكفئًا على هامش الحياة، بدلاً من استمرار الانخراط في خداع الكفاح الحزبي.

لعنة الهويات الفرعية وتنافر الطبقات:

تصور رواية "أبو القمصان" محطة مهمة، حيث تتفاعل شخصياتها في فضاء مدينة القاهرة لتطرح (أم قضايا) المجتمعات عامة، المتبلورة بصراع الهويات الفرعية: الجذور واللون، والتسامي الطبقي، والتناقض الحاد بين الفئات المهمشة ذاتها، بالاستناد إلى استلهام التاريخ الرسمي والشعبي في تقديم النماذج المستبدة والمقهورة عبر الزمن.

تنتمي الهوية الفرعية لعائلة الشيخ جوهر أبا القمصان إلى فئة الرقيق، من ذوي البشرة السوداء، والذين عمل أجدادهم تحت سيادة عائلة عربية في الصعيد.

وخلال السرد، يصف الراوي غربة هويته التي عانى منها بسبب لون بشرته، منذ طفولته وفي المدرسة والحارة والجامعة، بل وحتى داخل نفس العائلة؛ حيث تعاني والدته كراهية أهل زوجها كونها ليست من ذات المكون.

ظروف القهر ووصمة العبودية والثورة عليها يستحضرها الراوي بالاسترجاع التاريخي القريب والبعيد، وبخط عكسي، من خلال صورة الخدم في الدراما، وبطولة عنترة العبسي، ومكانة الصحابي بلال بن رباح، وحكم كافور الإخشيدي، وصولاً لثورتي الزنج الأولى والثانية إبّان العهدين الأموي والعباسي.

يتمظهر الاحتقار الطبقي ومحاولة التسلل من التسامي الاجتماعي، عبر محاولات "التغيير الناعم" باختراق الهويات والمهن التي تزدريها طبقة الإقطاع والأسياد. وفي ذات السياق، يبدو التنافر حتى بين الفئات "المطحونة"؛ فتنظر "الهوية السوداء" نظرة دونية "لهوية الغجر". ورغم ذلك، يصبح العامل المادي صاحب "الفضل وتلميع الأصل"؛ فلا تصمد أمامه لا هوية ولا تصنيف اجتماعي. فهذا "الشيخ جوهر" يرفض تزويج ابنته من قريب نجار فقير، ويفخر بمصاهرة غجري يمتلك محلات تجارية، ويحاول التسلل بـ"تطبيق" زواج لابنه بامرأة غنية من غير طبقته وهويتِه.

يبدو أن المكونات المهاجرة من الأطراف إلى العاصمة، تعاني مشاعر الاغتراب فتظل"متوجسة توجس الديك" من كل شيء؛ فتحاول الاحتماء ببعضها البعض، عبر "التقوقع السكني" من جهة، والدفاع عن شخصيتها المستهدفة – حسب وجهة نظرها – في تفسيرها للأحداث ، ومقاومة الصور النمطية المشوهة التي شُكلت عنها عبر الزمن. فبعض شخصياتها تؤكد "نظرية المؤامرة" ضد الصعيد، عندما شوهت الحكومة والصحافة معًا بطولة "عبد العال وحسب الله" الشهيرين في قضية ريا وسكينة، وحولتهما من مقاومين للاحتلال الإنجليزي إلى مجرمين.

معجزة البحث عن الخلاص والتحرر:
تقدم رواية "أبو القمصان" نموذجين متقابلين في محاولتهما الخلاص من ربقة القهر والتسلط بكافة أشكاله:

النموذج الأول (اليأس):يتبلور من خلال فحوى رسالة يجدها "سعيد" في صندوق جدته، مرسلة من عمه "فرج" إلى "الإمام الشافعي"، يشكو إليه تفاصيل التفاصيل لما كابده من ظلم وإجحاف، وما شاهده من فساد، وتهمة هوية لونه التي لاحقته حتى أثناء خدمته العسكرية في حرب اليمن. رسالة "فرج" دلالة واضحة على القنوط والانكسار واليأس من تغيير الواقع، مما حدى به إلى مكاتبة الأموات بانتظار معجزة.

النموذج الثاني (التمرد):يتبلور بدور جيل الأحفاد ومعارضة إملاءات السلطة الأبوية، حيث يتمرد "سعيد" على قسوة والده "الشيخ جوهر" لحد التصادم بينهما، ومن ثم طرده من البيت، وقطع الصلات العائلية معه؛ بسبب رفضه تنفيذ خيارات الوالد في حياته الشخصية. وهذه الدلالة المهمة التي أرادها الراوي مؤشرًا إلى ضرورة التغيير من داخل الشخصية، في نسق الأفكار والثقافة، من قاعدة الهرم.

يلجأ سعيد إلى صديقه يونس الهلالي سليل الحسب والنسب، الذي يدخله نطاق الصالونات الثقافية والأمسيات الشعرية ومسارح اللهو الليلي. ويروي يونس حكاية تغريبة بني هلال وبني سليم اللتين وصلتا كقبائل محاربة إلى أقصى المغرب العربي، والتوزيع الجغرافي لأماكن استقرار "الهلالية" في مختلف أنحاء مصر، في رسالة مفادها: أن الهوية العربية جامعة وقادرة على أن تشكل مظلة آمنة لجميع الهويات الفرعية الأخرى شرقًا وغربًا.

يبحث سعيد عن حريته وتحقيق إحساسه بالمساواة بزيادة الاندماج بالآخرين ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، طارحًا صداقته من خلال أفكاره وثقافته، مستبعدًا عامل لونه وأصله. فيتعرف على "ناهد الصياد"، أنثى متحررة، متخصصة بالأنثروبولوجيا، يرافقها في زياراتها البحثية إلى الصعيد، ويساعدها في إعداد دراسات التراث الغنائي الجنوبي، تنشرها في مجلات خارجية مقابل مكافآت نقدية. فيما يتوهم سعيد – الذي بذل قصارى جهده في نجاحها المهني – أن العلاقة بينهما هدمت جدران الفصل "الهوياتي" وأذابت الفارق الطبقي؛ ليكتشف أن ذات "البشرة البيضاء" استغلت إيمانه بعقلها المتنور المحب لتراث منطقته، وتلاعبت بعواطفه وجرحت كرامته. ليتضح له أنهما قطبان متنافران.

يقتل سعيد ناهدًا على مرأى من الناس، يُحكم عليه بالسجن المؤبد. رغم ذلك، لا يخفي الراوي بهجة سعيد بتحرر ذاته من سجن "هويته وطبقته"، فها هو مستمتع بالقراءة والكتابة والمساواة مع السجناء في حياة يراها طبيعية، وإن كانت خلف الأسوار، بعيدًا عن القهر والاستغلال والإقصاء في مجتمعات ما زالت تمشي إلى الأمام ورأسها مركب إلى الخلف.

الحوار والبنية والدلالات:
حضرت المرأة كما الرجل في معظم القصص: المرأة الأمية المؤمنة بالخرافات، المسلوبة الإرادة، القوية التي تقسم بالطلاق، المتسلخة ببندقية ويخشاها العمدة، الحارسة للموروث والناقلة للتراث. أما المتعلمة فبدت عاملة في وظائف أولية، باحثة بقضايا محلية وإقليمية. وهناك المرتشية والمحرضة؛ فالأمراض الاجتماعية لا تعرف الجندر. أبرز الشخصيات النسائية هن: الجدة، حورية محارب، وناهد الصياد، وبخيتة القصاصة، قمر العجوز.

الاهتمام بالثقافة والدراسات والصحافة والإعلام كانت مهنًا لازمت الراوي في كل القصص. أما القهر الذي شكل بؤرة التوتر في الأعمال الثلاثة، فظهر: كقهر فردي، وأسري، وبيئة العمل، وطبقي، وتاريخي.

لم يكن خط الحوار تعبيرًا سطحيًا عن المواقف وتحقيق التواصل بين المكونات الفاعلة؛ بل كانت تدور حوارات تستجلي عمق الأشياء، حتى في حوار الأنا الأحادية.

يتشكل البناء المعماري لـ "غرب النيل"، و "مقتل بخيتة"، و "أبو القمصان"من بنية لغوية مزدوجة، وأصوات للسرد التقريري المباشر، ولغة الاسترجاع الزمني، إضافة للغة التضمينية المتمثلة بالأمثال والأقوال و"العدودات" الصعيدية. وتعدد الأصوات والمستويات اللغوية داخل النصوص كشف عن وعي الشخصيات وما تمثله في أنماط الثقافات التقليدية.

البناء الروائي في نتاج خالد إسماعيل ليس معقدًا، ويتطلب أيضًا قراءة غير "برية". فالدلالات المزدوجة، والتناقضات الحادة في تصرفات أبطاله تصور مدى التشوهات النفسية، والأخلاق الفاسدة والمستغلة، كثمرة طبيعية للأوضاع الاجتماعية المتدهورة التي رسختها الأبنية والنظم القبلية والسياسية والثقافية والدينية وتحالفاتها المصلحية عبر الزمن حتى وقتنا الحاضر.
تابعوا نبأ الأردن على
تصميم و تطوير