وائل منسي يكتب : الواقعية السياسية: فلسفة القوة أم شرعنة القهر؟
نبأ الأردن -
المدرسة الواقعية في التحليل السياسي والعسكري وُلدت منذ ماكيافيلي وهوبز، وتطورت لتصبح الأداة المفضلة للهيمنة في القرنين التاسع عشر والعشرين. تقوم على فرضية أن الدولة هي اللاعب الأوحد في النظام الدولي، وأن المصلحة القومية تتقدم على أي اعتبار آخر، وأن القوة، عسكرية كانت أو اقتصادية، هي السبيل الوحيد لتحقيق تلك المصلحة. أما الأخلاق والقيم والشرعية الدولية، فهي في نظر الواقعيين ترف لا مكان له في معادلة البقاء.
بهذا المنطق، تُفسَّر الحروب والغزوات والاحتلالات لا كجرائم، بل كنجاحات استراتيجية. هكذا بررت الواقعية الاستعمار القديم، وهكذا تغطي اليوم الاحتلال الصهيوني لفلسطين وتعتبره نموذجًا لـ"العقلانية السياسية"، وهكذا منحت الغطاء لغزو العراق وأفغانستان وحروب لا تنتهي. إنها باختصار منطق الغاب: البقاء للأقوى، والقانون يكتبه المنتصر بدماء الشعوب لا بمواثيق الأمم المتحدة.
لقد تحولت الواقعية من مجرد إطار تحليلي إلى أيديولوجيا تبريرية تخدم الإمبريالية وتمنحها الشرعية الأكاديمية والسياسية. فهي اليوم السلاح الفكري للنخب الحاكمة في واشنطن ولندن وتل أبيب، ولسياسات اليمين المتطرف الذي يرى في القيم ضعفًا وفي الحروب فرصًا، ولسيناريوهات الردع النووي والهيمنة العسكرية التي تغطي أبشع الجرائم باسم "الأمن القومي".
ومع ذلك، لم تخلُ الساحة من بدائل حاولت كسر هذا المنطق الدموي. فقد قدمت الليبرالية مقاربة تراهن على المؤسسات الدولية والقانون والعولمة، رغم أن الواقع أثبت هشاشتها أمام سطوة القوة. وجاءت البنائية لتفسر العلاقات الدولية من زاوية الهويات والثقافات، فيما كشفت الماركسية والمدارس النقدية جوهر الصراعات باعتبارها صراعًا على الثروة والموارد وهيمنة الرأسمالية. أما مدارس الأمن الإنساني، فقد حاولت نقل مركز التحليل من الدولة إلى الإنسان، لتعيد الاعتبار للقيم والعدالة كجزء من السياسة.
وهنا تبرز مدرسة الديمقراطية الاجتماعية كمشروع سياسي بديل، يتجاوز كلًّا من واقعية القوة وليبرالية السوق. فهذه المدرسة تؤمن بأن السياسة ليست صراعًا صفريًا بل عملية توازن بين العدالة الاجتماعية والتنمية الاقتصادية، بين المصلحة الوطنية والالتزام بالقانون الدولي، بين قوة الدولة وكرامة المواطن. الديمقراطية الاجتماعية تعيد الاعتبار للسياسة كخدمة عامة وليست لعبة مصالح، وتطرح رؤية تجعل الإنسان لا السلاح هو مركز التحليل، وتربط الأمن بالعدالة، والشرعية بالمشاركة الشعبية، والازدهار بالحقوق لا بالنهب.
إن نقد الواقعية اليوم ليس ترفًا فكريًا بل ضرورة سياسية وأخلاقية. فالتسليم بمنطقها يعني القبول بعالم تُدار فيه العلاقات الدولية بالمدافع لا بالقوانين، وبالاحتلال لا بالعدالة، وبالمصالح الأنانية لا بالإنسان. وحدها المقاربة الديمقراطية الاجتماعية قادرة على كسر هذا المنطق، وبناء توازن جديد يعيد للسياسة إنسانيتها وللعالم بوصلته. الواقعية ليست مدرسة للفهم فقط، بل غدت ذريعة لتبرير أبشع الجرائم، والبديل هو فكر يجمع بين القوة والعدالة، بين الدولة والإنسان، بين السياسة والأخلاق.

























