د.تمارا الزريقات تكتب: في كل علمٍ خفاق، قصة نهوض…وفي علمنا، كل قصة الأردن

{title}
نبأ الأردن -



يُشرقُ السادس عشر من نيسان في الوجدان الأردني الاحتفاء برمزٍ وطنيٍّ مهيبٍ يحملَ إرثًا خالدًا، ويبوحَ على صفحاته بقصةِ وطنٍ يتجدّد من جذور الماضي حتى آفاق المستقبل (يوم العَلَم. يومٌ تتجدّدُ فيه جذوة الانتماء والولاء، فتعلو الرايةُ برمزيتها لتختزل شموخ الوطن وسؤدده وعزّته، وتؤكّد ولاءَ شعبٍ أحبَّ آل هاشم الذين قادوا الأمة في مسيرة نهضتها ونيل استقلالها.

هناك، على امتداد طابور الصباح، ومنذ نعومة الأظفار بدأ حبُّ العَلَم واحترامه يتأصّل في ذواتنا، حين اعتدنا أن نراه يرتفعُ رويدًا رويدًا فوق السارية، فتتوحدُ نبضاتُ قلوبنا مع خفقات رايته، ويتحولُ ذلك المشهد إلى وعدٍ صامتٍ يتعاظم مع إشراقة كل يوم؛ لحظات لم يكن فيها رفع العَلَم مجرّد إجراءٍ مدرسيٍّ روتينيّ عابر، بل ترسيخ لعهدٍ يوميّ نمنحه لأرضٍ نرتبط بها حضارةً وانتماءً وكرامةً.

وفي مشهدٍ يستحضر معنى التنشئة السياسية القويمة؛ استذكر كيف كنّا نصطفُّ بزيّ موحد بنظامٍ وانضباط يلفّه الحماس، وتتصاعدُ فينا مشاعر الانتماء مع كلِّ نغمةٍ تصدح بالسلام الملكي، وقلوبنا تردد: "حيه في الصباح والسرى؛؛في ابتسام الاقاح والشذى”؛ ما زلنا نذكر كيف يغمُرنا زهوٌ طفوليٌّ بينما تمسكُ أيادينا بحبل السارية ونرفع العَلَم رويدًا رويدًا، وكأننا نبادله الحبّ قولًا: ”(سر بنا للفخار والعلا، وارعنا للنضال جحفلا)” فنشعرُ حينها أنّ الوطن بأكمله يصعدُ في أعماقنا خطوةً إثر خطوة،،،،، كانت أصواتنا الشجية تتوحّد بهتافٍ حماسيٍّ واحد: "يعيش جلالة الملك المعظّم”، ثم يعلو الحماس أكثر فنُردّد: "يحيا الأردن”، وكأننا ننثر حُبّ الوطن في أرجاء المدرسة مع كلّ رفعةٍ جديدةٍ للعَلَم؛ تُغرس بأرض عقولنا الخصبة معانٍ أسماها أنّ الوطن: هو أكثر من حدودٍ على خريطة؛ هو عقيدةٌ نتنسّمها مع كلِّ إشراقة شمس ورفة عَلَم.

كبرنا، وتغيّر المشهد، لكن بقيت تلك اللحظة حاضرة: نحن والسارية، نحن والعلم؛ بدأنا نرقُبُ كيف ينظر الأردنيون إلى علمهم، وكيف يرتفع لا في الساحات فقط، بل في الوعي، في المواقف، في صلواتِ الأمهات اللواتي يحملن طيف الرجاء على أهداب كل صباح، وفي دعاء الجنود وهم يتّجهون للحدود.

كان العَلَم الأردني ولا يزال عمود المعنى في الرواية الوطنية كلها؛ وتحت ظلاله سطّر الأردنيون، بقيادتهم الهاشمية، فصولًا مشرّفة من الثبات والفداء. فمنذ لحظة إعلان استقلال المملكة الأردنية الهاشمية في الخامس والعشرين من أيار عام 1946، ارتفعت هذه الراية عنوانًا للسيادة، وشعارًا للكرامة، ورفرفَ معها الإيمان بالدولة ونهجها. حملها الأردنيون إلى جبهات المواجهة، واحتضنوها في ساحات الوغى، وبذلوا الأرواح دفاعًا عنها في معركة القدس الشريف. وفي حضرة التضحيات، كانت الراية تنتقل من شهيد إلى شهيد على أسوار المدينة المقدسة، لتبقى مرفوعة، خفّاقة، لا تنكّس ولا تُنكّس، حتى سُطّر النصر المؤزر في معركة الكرامة، يوم ارتفع العَلَم لا بوصفه شعارًا، بل شاهدًا على بطولة لا تموت.

جاء العلم الأردني جامعاً لرموز الاستقلال العربي عبر المراحل التاريخية التي مثلت هويتنا وقيمنا وتاريخنا؛ وامتداداً لعلَم الثورة العربية الكبرى التي أعلنها الشريف الحسين بن علي منادياً بالوحدة والحرية والحياة الفضلى؛ ألوانه الزاهية المشبعة بالرمزية والإرث الحضاريتعبرعن دولة تدرك منذ اليوم الأول أهمية الرموز وتجسد عمق هويتنا وتاريخنا العربي الإسلامي؛ فاللون الأسود هو راية العقاب، وهي راية الرسول محمد -صلى الله عليه وسلم-، وقد اتخذه العباسيون شعارًا لدولتهم؛ واللون الأبيض هو راية الدولة الأموية، التي ارتبطت في الوعي بانتصارات الإسلام الأولى؛ أما اللون الأخضر، فهو راية الدولة الفاطمية، وشعار آل البيت؛ في حين أن اللون الأحمر يمثّل راية الهاشميين.

وفي قلب هذا المثلث الأحمر، تستقر النجمة السباعية البيضاء، كدلالة قرآنية وروحية تشير إلى السبع المثاني في سورة الفاتحة، وترمز كذلك إلى سبع قيم تأسّس عليها الأردن: الإيمان، العدل، الحرية، الكرامة، الوحدة، الإنسانية، والمساواة.؛ وقد صاغ الدستور الأردني هذا المعنى في مادته الرابعة، بمواصفات هندسية دقيقة تؤكّد أن العلم ليس رمزًا عابرًا، بل هوية بصرية وسياسية وروحية تُجسّد مشروع الدولة الأردنية وموقعها في وجدان أبنائها.

لكن أكثر من يعي هذا المعنى هو الأردني الذي لا يرى في العَلَم شعارًا عابرًا، بل قسمًا يُؤدى، ورايةً تُحمَل، وشرفًا لا يُساوَم عليه، هو الأردني الذي يحيّي العَلَم كما يحيّي الأرض التي أقسم ألا تُمسّ بسوء. يراه رفيقه في الميدان، وصوته في الحدود، وحقيقته المتجذرة في العمقففي كل موقع عسكري يرفرف فيه العَلَم، يسطر جيشنا العربي وفاء لا يُقال، بل يُعاش، وهويةٌ أردنية تتجسّد بالثبات والولاء.

لنعلّم أبناءنا أن كل خيط في هذا العلم هو خيط من دم الشهداء، وكل رفّة منه تروي سيرة وطن كُتب بتضحياتٍ لا تُنسى عبر الأجيال؛ ومع كل نسمة هواء تعانق سباعيته نستذكر معًا بأنّ الأوطان تُبنى بهامات الرجال وبالعمل الدؤوب والإصرار على مواصلة المسير؛ متمسكينبثوابتنا الوطنية والمبادئ والقيم الراسخة، ملتفين وملتحمين تحت الراية الهاشمية.

العلم الأردني؛ رايةٌ يتفيأ تحتها الجميع، هو الرمز الذي وحّد القلوب قبل أن يوحّد الصفوف، وجمع الأردنيين على عهدٍ واحد، ووطنٍ واحد، تحت ظل قيادته، ورايةٍ لا تنكّس، وفي كل مرة يُرفع فيها العلم، سواء في مؤسسة، أو في طابور، أو في معسكر، أو في ساحة مظلّلة بعرق النشامى، نحن لا نكرّر مشهدًا فحسب، بل نُحيي فكرة، العلم الأردني: ماضٍ نعتز به؛ ومستقبل يستحق أن نرفعه نحوه.

وإذا كنّا نحتفل بيوم العلم، فليس لنمجّد الشكل… بل لنؤكّد المعنى: أن من رفع العلم بالأمس يستحق أن يظل حاضرًا في وعينا، وأن من يحمله اليوم يكتب بحركته سيرة وطن لا يُقاس بمساحته، بل بثباته.

نعم… في كل علمٍ خفاق، قصة نهوض.

وفي علمنا، كل قصة الأردن.

 

تابعوا نبأ الأردن على
تصميم و تطوير