د.حسن براري يكتب : عندما تصبح اللغة إحدى أدوات قمع الوعي!!

{title}
نبأ الأردن -
يقول الروائي الإنجليزي إريك آرثر بلير – المعروف باسم جورج أورويل – في روايته الأشهر "1984" إن اللغة ليست مجرد وسيلة للتواصل، بل يمكن أن تُستخدم كأداة فعالة للخداع والسيطرة على العقول. وقد أظهر أورويل في كتاباته القيمة كيف يمكن تحوير اللغة وتطويعها لخدمة السلطة، بحيث تصبح وسيلة لإخفاء الحقائق بدلاً من كشفها.

في هذا الفضاء الرحب، يجد المثقف نفسه محاصرًا بجدران من الكليشيهات الفارغة التي صممت بعناية لتشل صاحب التفكير النقدي وتحوله إلى متفرج خامل في مسرحية عبثية. خذ مثلاً العبارة العبقرية: "مش وقته"، التي تُعد السلاح الأول والأكثر فعالية لكل من يريد أن يغلق فمك قبل أن تفتحه. تسأل عن التعليم؟ "مش وقته". تسأل عن الصحة؟ "مش وقته". يبدو أن الوقت الوحيد المناسب هو حين يقررون أنهم بحاجة لرفع الضرائب أو عندما يطلبون من الفقراء والمعذبين في الأرض الالتفاف حول العلم لأن تهديدا خارجيا ما يلوح في الأفق.

ثم تأتيك عبارة أُلبست لبوس القداسة: "لا يفتي جالس لواقف"، وكأن الوقوف هو المعيار الوحيد للفهم والعقلانية. ربما الحل لكل أزماتنا هو أن نبدأ جميعا بالوقوف في طوابير طويلة، حتى لو كان ذلك فقط لنكتسب الحق في إبداء الرأي. ولعل الجلوس، بالنسبة لهم، دليل على الكسل، إلا حين يجلسون بأنفسهم على الكراسي الوثيرة للسلطة. هذه العبارة تستخدم بشكل إقصائي؛ فإذا لم تكن مشاركًا في المعركة – أي معركة يختارونها – فلا حق لك في فتح فمك. المطلوب أن تخرس! أما إذا أشرت إلى أن المعركة -اي معركة في الكون - تخضع لمعادلة الربح والخسارة عندها يمكن وصفك وبكل بساطة بالطابور الخامس!

ولا ينتهي الأمر هنا؛ فالناصريون والقوميون واليساريون - الذين لم يربحوا معركة واحدة في حياتهم - ابتدعوا الكليشيه الشهير: "لا صوت يعلو على صوت المعركة"، لتبرير قمع الحريات بالطبع. لكن أي معركة؟ هل هي تلك التي يخوضها المواطن يوميا مع الفقر والبطالة؟ أم المعركة الخفية ضد المنطق؟ هذه العبارة تُستخدم ببراعة لتبرير كل شيء، من قطع الخدمات إلى تقييد الحريات. قراءة كتاب مالكولم كير عن توظيف الناصريين لهذه العبارة ضروري لكل من يريد أن يقرأ تاريخنا المعاصر بشكل نقدي.

وأخيرًا، تأتينا العبارة الخالدة التي لم تبتدعها نخب الخيبة، بل للأسف الشديد المجتمع نفسه، وهي: "حط راسك بين الروس". هذه العبارة تلخص فلسفة الخضوع الجماعي. بدلًا من التفكير النقدي أو البحث عن حلول، المطلوب منك ببساطة أن "تحط راسك" وتتنازل عن أي طموح. فمن الأفضل أن تكون مجرد رقم في قطيع، لأن التفكير قد يجعلك هدفًا للانتقاد أو التهميش.

هذه العبارات وغيرها ليست مجرد كلمات، بل أدوات ماهرة لقمع الوعي. تخيط لنا عباءة الصمت والخضوع، بينما تمر القضايا الحقيقية من أمامنا كالرياح، بلا صوت ولا أثر.
تابعوا نبأ الأردن على
تصميم و تطوير