ليان عاصي تكتب : سجلات الايدي والعقول .. صراع الأفكار في بحر السياسة
نبأ الأردن -
في زوايا الطاولات المكتظة بالوجوه المألوفة، تدور ذات الحكايات بصيغٍ مختلفة. نبرة الصوت تعلو، الأيادي تتحرك بانفعال، والعقول تمضي في دورانها الأبدي حول قناعاتها الموروثة. بعضهم يتحدث بيقينٍ يكاد يكون صخرة لا تنكسر، وآخرون يحاولون—بصبرٍ يشبه الصراع مع الموج—أن يُحفروا في هذا الصخر كلماتٍ منطقية، مستندة إلى تحليلٍ ورؤية.
لكن الحقيقة ليست مجرد أرقام تُساق في النقاشات، ولا هي أصوات المحللين الذين يظهرون في نشرات الأخبار، بل هي ذلك الخيط الرفيع بين الإدراك والإنكار، بين من يريد أن يرى ومن يفضل العمى. وحين تتجلى الفجوة بين الاثنين، يصير النقاش أقرب إلى طعنٍ في الماء؛ لا أثر، لا تجاوب، مجرد ضجيج يرتدّ إلى صاحبه.
كم مرة وجد العاقل نفسه محاصرًا بين عواصف العواطف الجاهلة؟ بين من يستند إلى شظايا أخبارٍ مبعثرة، ومن يؤمن بأن الصوت الأعلى هو البرهان الأقوى؟ كل دليل يُطرح يقابله يقين مضاد، كل محاولة إيضاح تغرق في مستنقع التعصب. عندها، يكون الصمت أكثر فصاحة من كل اللغات، والابتعاد أكثر شرفًا من جدالٍ لا يُنجب سوى الفراغ.
لكن الهروب ليس دائمًا الخيار. فثمّة من لا يزال يمتلك أذنين تصغي، وعقلًا يتساءل، ونفسًا لم تروضها العناوين الصاخبة. لأجل هؤلاء، يكون الإصرار على الحقيقة واجبًا، والتسلح بالمنطق سلاحًا لا يُستهان به. فالتغيير لا يحدث بضربة قاضية، بل بتراكم الوعي، نقطة بعد نقطة، حتى تخرق الحقيقة أكثر العقول صلابة. وكما أن الماء، رغم طواعيته، ينحت الصخر بصبره الطويل، فإن الفكر الحرّ، وإن بدا وحيدًا وسط الضجيج، يملك قدرة خفية على إعادة تشكيل العالم، فكرة بعد فكرة، حتى تنقشع الغيوم وتشرق الحقيقة كالشمس التي لا تُحجب إلى الأبد.

























