جميل النمري يكتب : عشرة ايام ولا بالأحلام
نبأ الأردن -
اسقاط النظام بعشرة ايام !؟ شيء من الخيال.
منذ بدء الهجوم على حلب حتى سقوط دمشق كل يوم كان مفاجأة فوق التوقعات. كانت التصريحات من كل العواصم والتحليلات من كل المحطات تقع في مطب التقادم عن الحقائق كل يوم أو بعد بضع ساعات.
لنستبعد فرضية المؤامرة التي تختصر القصة الى شيء مرتب سلفا بين الأطراف بما في ذلك النظام السوري نفسه! ولنحاول تتبع التطورات والتخمين بالمسار الواقعي لما حدث.
حتما كان هناك نقاشات بين انقرة وواشنطن وربما عواصم أخرى من بعض الوقت. وحتما ان الأتراك اشتغلوا طويلا على اعادة تأهيل النصرة - جبهة تحرير الشام – هيئة تحرير الشام وبقية الفصائل سياسيا وعسكريا وتنظيميا لشيء مختلف فأصبح الجولاني له اسم حقيقي احمد الشرع ووجهة عادي وخطاب مسؤول ومعتدل. حتما ان الشهور التي مرت خلال الحرب مع حزب الله كانت تشهد البحث عن سيناريوهات تستكمل اضعاف حزب الله عسكريا الى الحد الأقصى الممكن بتجفيف منابع الدعم والتمويل فلا يعيد بناء قوته الى جانب الهدف الأوسع بتقليم اظافر ايران في المنطقة. وفي الميدان تتوفر اداة وحيدة هي قوات المعارضة السورية وهي تحت يد تركيا فألتقت هنا المصالح على مشروع مشترك. وكان على الأتراك تنظيف هذه الفصائل من تاريخها الارهابي والمتطرف وتأهيلها بخطاب وبرنامج وطني.
لا بد ان التصور انحسم ومباحثات وقف النار في لبنان تقترب من الحسم فتم اتخاذ القرار بساعة الصفر وانشاء غرفة عمليات القيادة.
لم تكن موسكو ولا طهران بالصورة ولا حتى الفصائل المعارضة المحلية في الشرق والجنوب أو الأكراد في الشمال والشرق. وفي الدوائر الغربية واسرائيل كانوا يعرفون ان الايرانيين والروس في اضعف اوقاتهم ولن يقدموا نفس الدعم للنظام السوري. وروسيا تتلهف على مجيء ترامب لحل قضية اوكرانيا وليست مستعدة لتخريب الأمر معه بسبب سوريا والاستثمار المكلف مع نظامها الفاشل.
اعطت تركيا الضوء الأخضر للمغامرة وليس في البال اكثر من تغيير الواقع الى توازن جديد ضاغط يفرض على النظام السوري العودة الى تفاوض حقيقي على الملفات. ويمكن الجزم ان الانجازات المتسارعة للمعارضة ادهشت اردوغان وكان قد بقي حتى بعد الاستيلاء على حماة يدعو لحوار النظام مع المعارضة.
طريقة سقوط حلب قالت كل شيء عن حال الجيش السوري لكننا لم نصدق اعيننا وقلنا لعلها المفاجأة.. وبعد حماة قلنا لعلها استراتيجية النظام بتجميع القدرات عن خط دفاع استراتيجي في حمص عقدة الطرق الى الساحل العلوي والى لبنان والى دمشق لكن سقوط البلدات في محيط حمص اظهر انه لا استراتيجية ولا تكتيك ولا يحزنون فلا خط دفاع ولا ارادة قتال. فقط الطائرات من قاعدة حميميم الروسية هي التي تستجيب للأوامر العسكرية بطلعات جوية للقصف ولعل هذا ما انضج قناعة بوتين ان النظام حالة ميؤوس منها بعد ان كان سقوط حلب قد أغضبه وعنف قائد القوات الروسية وأقاله.
كل تصريحات النظام كانت كذبا في كذب. كان يدعي انسحابا واعادة نشر وتموضع لمعاودة الهجوم مع سقوط كل مدينة بينما الحقيقة كان انسحابا عشوائيا أو فرارا من التشكيلات العسكرية المفترضة.
اعلام النظام كان مفصولا كليا عن الواقع وقمة الفصام الخروج بتصريحات عن احاطة دمشق بأطواق أمنية عصية على اي اختراق في اليوم الاخير للحرب. كان استعراضا مطلقا للغباء والاستغباء. وفي الواقع كانت مجموعات صغيرة قادمة من الجنوب ومن محيط دمشق تدخل بسهولة الى الى المدينة وهي سبقت وصول قوات المعارضة الرئيسية من الشمال وكانت كافية لتعجيل قوات النظام بمغادرة مراكز كانت قلاعا جبارة للسلطة ابتداء من مطار المزة. وهذا يؤكد ان القوات العسكرية والأمنية السورية ومفاصل السلطة كانت قد انتهت الى وضع بائس يفوق توقع احد بما في ذلك قوات المعارضة. ولا بد ان كان كبار القادة العسكريين اللذين لاحظوا تخلي حلفاء الأسد عنه تخلوا عنه هم ايضا وكانوا يصدرون الاوامر الوحيدة القابلة للتنفيذ وهي الإخلاء. ومن الطريف ان المحللين على الشاشات كانوا يخرجون كل يوم بتحليلات عن مسار الحرب معقدة في احتمالاتها ومآلاتها لتداهمهم الأحداث في اليوم التالي بمستجدات تذري كلامهم في الهواء .
خلال السنوات الخمس بعد اتفاق استانة ووقف القتال وعودة سلطة النظام على مناطق "سوريا المفيدة " لم يصرف النظام دقيقة واحدة على الاصلاح واستمر بشار الأسد يمارس نفس اسلوب الحكم المنحط لا يستخلص درسا واحدا لإصلاح نظام الحكم وبناء المؤسسية والدسترة وحكم القانون، بل تكرس التحول في مفاصل السلطة نهائيا الى عصابات متنافسة استباحت كل شيء واشتغلت بالفساد وتحصيل المال والتهريب والمخدرات وبالتوازي اشتغل الايرانيون بتنمية نفوذهم ومصالحهم حتى حزب الله تعرض للإفساد والاختراق وانعكس ذلك في الكوارث التي تعرض لها في المواجهة مع اسرائيل.
اضاع الأسد الفرص وهو في موقع قوة للحوار مع المعارضة واضاع فرص عودة العلاقة مع العرب والعالم واستمر في التعنت وفي انكار واقع التدهور الداخلي المريع الاداري والاقتصادي وتراجع مداخيل الدولة الرسمية وتراجع قيمة النقد المطبوع بكميات متزايدة وتراجع قيمة الرواتب حتى لم يعد هم الجيش وقياداته الوسيطة غير تأمين الدخل بأي وسيلة. وثمة تقديرات ان تواصلا كان يتم مع اوساط الضباط في الميدان في حلب ثم حماة وحمص وان رشاوى قدمت هنا وهناك وتفاهمات للانسحاب. ولعل التشكيلات العسكرية لم تهتم طوال سنوات بغير الأنشطة الفاسدة موزعة الولاءات على قادة يتابعون مصالحهم فاقدين لأي عقيدة عسكرية وطنية، اما الأمنية فالتنافس على النفوذ والقمع البشع. ومن المشكوك فيه حين بدأت الحرب ان هيئة اركان حقيقية موحدة ومسؤولة أدارت الموقف تحت قيادة الأسد. فلا علاقات القادة مع القوات ولا مع بعضهم ولا مع الرئيس كانت مؤهلة لذلك.
القيادة التافهة والفاشلة لبشار الأسد كما ظهرت طوال السنوات الخمس بعد انتصاره بالدعم الميداني الروسي الايراني اللبناني تكررت بصورة فادحة في ساعة الحقيقة أي الايام العشرة الأخيرة للنظام. لم يكن قائدا في الميدان وحسب مصادر كان يتفاجأ ويستغرب الانسحابات. ولم يظهر لدقيقة واحدة لمخاطبة الشعب والجيش، ولا يقدم اي توضيحات أو تصور للمستقبل. وترك للاعلام الرسمي الرطانة السقيمة والكلام الممجوج المنفصل عن الواقع.
لو ان ثمة قيادة مقتدرة لإلتقطت نداء اردوغان للحوار مع المعارضه ولبادرت لتحرك سياسي ولعل الروس والايرانيين ادركوا الخسارة الحتمية وظهر ذلك في تصريحات الطرفين وربما حصل توافق مع اطراف اخرى على تأمين مغادرة آمنه له وبالتوازي مفاوضات لدخول آمن بلا فوضى ولا انتقامات للمنتصرين.
تأهيل هيئة تحرير الشام وبقية الفصائل للمرحلة الجديدة ولدور مختلف. ولاحظو ان القوات الداخلة لم تعلن سلطتها في اي مدينة، لم تمس المؤسسات ووجهت رسائل تطمين وتسامح ورفض للانتقام ولم تتعرض حتى للجنود الفارين. وكان مذهلا الطلب من رئيس الوزراء الموجود الاستمرار في مهامة للإشراف مؤقتا على المؤسسات ومنع المسلحين من الاقتراب منها. ويقال ان هذا تم التوافق عليه بين عدة عواصم ومع المعارضة قبل دخول دمشق.
لكن لنكن واضحين. هذا المشهد ليس ثمرة صفقات بل حقائق في الميدان. فهذه ثورة ضد سلطة فردية عائلية فاسدة وليست غزوا. لم نر رعبا بين الناس بل احتفالا وفرحة في الشوارع ولعل الاستثناء الوحيد هو بعض مناطق النزاع بين الأكراد و الفصائل التابعة لتركيا في الشمال.
لعل الذهول امام سهولة سقوط النظام يعود في جانب منه لسوء تقدير حجم كراهية الشعب للسلطة التي لا يرى فيها الا بسطارا يدعس على رأس الناس يسجن ويقتل ويغدر حتى بأقرب الناس اليه. ولذلك ليس غريبا ان نرى حتى الوزراء والمسؤولين الحكوميين يشعرون ان كابوسا زال عن صدورهم. ورأينا حتى اللاذقية ومناطق الساحل العلوية التي هي معقل النظام خرجت تحتفل بزوال السلطة الغاشمة، وكنا نعتقد انها ستبقى حصة النظام ومعقله حتى بعد سقوط دمشق وربما في اطار تقسيم سوريا المحتمل الى دويلات .
" حتى الآن " سارت الأمور بصورة رائعة ونصلي كل دقيقة لكي لا ينقلب المشهد.
نأمل ان تبقى المؤسسات تحت مسؤولية الجهاز الاداري الحكومي بما في ذلك البنك المركزي وكل المؤسسات السيادية وبقاء الحكومة مؤقتا حتى تشكيل سلطة سياسية انتقالية تتمثل فيها جميع الأطراف وربما برعاية مشتركة عربية ودولية. ويمكن حفظ الأمن بمسؤولية مشتركة من الشرطة وقوات الفصائ ويمكن ان يتم استدعاء جنود وضباط الجيش الى ثكناتهم خلال فترة مقررة واستمرار رواتبهم النظامية ( في البال القرار المشؤوم والكارثي لحل الجيش العراقي). وعلى جانب آخر تجنب اي صدام ونزاع على مناطق النفوذ مع قسد أو بين اي من الفصائل بإنتظار نتائج الحوار حول صيغة النظام السياسي والدستور الجديد الذي سينتج عنه سلطة ديمقراطية منتخبة.
نحلم ؟ّ! لم لا ؟! ألم يحدث خلال عشرة أيام ما يفوق الأحلام