د.تيسير أبوعاصي يكتب : كان لكنه أمسى

{title}
نبأ الأردن -
كانت العصافير تملأ صباحاتنا وفنجان قهوتنا سجعًا وقوافيَ تُرخي ضفائرها على وجناتنا، فتتوهج في أحداقنا البسمات، وتستجمع في عروقنا الهِممَ وبسملة المسير.
كانت سماؤنا نقية تعلن زرقتها وترتسم في كبدها سحابة ونجوم وشمس وقمر، نمارس في أماسينا الإشارة إليها نجمة نجمة، نعدها ونحصيها رغم كل الثآليل المتربصة خلف غد قادم، نتسامر من خلف عتمة قد هطلت لتخلع بردها على حميمية السهر، فتلوذ بها حكايا الجدات وأصوات تهمس فيضًا مُحتشمًا من البوح الرشيق.
كان الفجر يأتي بناصية تتلألأ تَوهُّجًا تتدلى تستنهض فينا المسير، كانت رائحة الخبز عطر صباحاتنا العتيقة، وأجراس (الشلية) موقوتة تنبئ بوجبة حليب فاترة تصادق على نقائها وأصالتها، وكانت الأشعار والقوافي تتألق على انعتاق فيروزي حبًّا صافيًا وبراءة ليس لها وجهان.
كانت المُثُل والقيم واضحة جلية لا يشوبها التنظير ولا تتوه في مهاوي الفيسبوك ولا التويتر، الأب كان أبًا، والمعلم كان معلمًا والشهادة المدرسية كانت نيشانًا لسهر وتعب ودراسة، الشعر كان رتمًا وقوافيَ وإنشادًا نتلهى في مناظراتها كلما أتيح لنا عقد ميادينها.
كانت عواصم العالم ورؤساء الدول وأعلامها مهمة تشغل طفولتنا، كانت متعة اللعب جماعية تحتضن الثلل ولم تكن لتجتزئ اللهو كلًّا على حدة، يسافر ويغوص في عوالم التيك توك وغياهبها دون رقيب أو حسيب أو شارات منع وتحذير.
كان للدول حدودٌ تصون وحدتها ضد طغيان الطامعين والغزاة.
أصبح في زماننا الرديء كلُّ شيء تائه في مستنقعات الضياع، الأصالة قد تاهت في مجاهل العولمة ومكائد منظومات الفساد واتفاقات الجات، أما الحقيقة فقد أصبحت مترامية الأطراف، أذرعًا يصعب لملمتها، وإذا استطعت التملك من بعضها يتفلت بعضها الآخر، تارة بحكم الديمقراطية، وتارة بحكم رقيب رسمي أو رقباء من صناعة أيدينا، لذا نلوذ في كل حين إلى صمت رهيب وننكفئ إلى عالم الفردية، وبناء مجتمعات قواعدها متحللة تتماهى في مساقات الاستهلاك.
تابعوا نبأ الأردن على