زهدي جانبيك يكتب: السحاحير وتوازن أميركا والصين
نبأ الأردن -
لا اقصد هنا سحاحير ناوا، وناوا هي جزيرة شمال السودان يعيش فيها "السحاحير" وهم مخلوقات مخيفة مسخهم ساحر في قديم الزمان فجعلهم خليطا من النعام والتمساح والجن والإنس، طولهم ضعف طول الرجل ، ويقتاتون على لحوم البشر، يخرجون من ظلمات جزيرة ناوا ويخطفون الرجال والنساء والأطفال، ويأكلونهم ...
آلة التوازن
وانا هنا لا اقصد تلك المخلوقات الخيالية ... وإنما اقصد السحاحير ، جمع سحارة، وتسمى السواطر (جمع ساطر)، وفي مناطق أخرى يقال لها "الجادم البغالي" وفي اللغة الحديثة تصبح "القادم البغالي" ...
التفاصيل
كان لدينا مطاحن قمح أدركت منها آخر مطحنة وامتلكتها فيما بعد (والملك لله)، وأثناء طفولتي كانت إحدى مهامي توصيل الطحنة من المطحنة بوسط البلد إلى شارع القدس على ظهر حمار أقرب ما يكون إلى البغل ...
اذا كانت الطحنة مكونة من شوالين، كانت المهمة سهلة ، حيث يتم ربط كل شوال بحبل على جانبي الحمار بشكل متوازن ... وكان ركوبي على الحمار سهلا... إذ يكون ظهر الحمار مكشوفا فأركبه بسهوله، واترك الشوالين يتدليان على جنبي الحمار...
اضافة شوال ثالث كانت سهلة ايضا ، اذ يتم تحميله على ظهر الحمار مستندا على الشوالين ومحافظا على توازنهما... ولكني في هذه الحالة افقد مقعدي على ظهر الحمار .
الشوال الواحد :
مشكلتي الحقيقية كانت عند نقل شوال واحد ... ففي هذه الحالة يتم وضع منتصف الشوال على منتصف ظهر الحمار ، وأصر انا على الركوب فوق الشوال ...
التحدي هنا يكون بالمحافظة على توازن الشوال... اي حركة خاطئة مني تؤدي إلى الاخلال بالتوازن ، وبالتالي سقوطي من فوق الطحنة... الحالة الأسوأ تكون بسقوطي وسقوط الشوال عن ظهر الحمار ... لكن الحالة الأسوأ تكون اذا سقطت انا ، وحاولت أثناء السقوط إعادة التوازن إلى الشوال، لان الفشل هنا يؤدي إلى سقوطي وسقوط شوال الطحنة فوقي ... فيصبح السقوط كارثة ... وقد حدث هذا مرارا ...
عودة إلى السحارات او السحاحير:
السواطر هي صناديق خشبية يتم تعليقها على جانبي الحمار بواسطة حبل وبشكل متوازن ... عند تعبئة السواطر يجب المحافظة على التوازن ، وملئهما معا بنفس الوقت وبالتساوي ... للمحافظة على التوازن.
ونظرا لتعدد مهام حمارنا ، فقد استحدث والدي رحمه الله "سحاحير معدنية" مصنوعة من زوايا حديدية ليست على شكل صندوق ، تتدلى سحارة على جنب الحمار الايمن ومثيلتها على جنبه الايسر...
هذه السحارة المعدنية زادت من فعالية وكفاءة الحمار ... صرنا نستطيع نقل 4 تنكات ماء من النبع دفعة واحدة، فنضع تنكتين على السحارة اليمنى ، ومثلها على اليسرى ...
لاحظ عزيزي القاريء، ان التحميل يجب أن يتم من قبل شخصين ، الأول يمسك السحارة اليمنى بينما يضع الشخص الثاني التنكة الأولى في السحارة اليسرى ...ويبقى الشخص الاول محافظا على التوازن إلى أن يضع الشخص الثاني تنكة الماء الثانية في الجهة المقابلة فيتحقق التوازن "تنكة مقابل تنكة" ...
وعند تحميل التنكة الثالثة ، يختل التوازن قليلا ولكن الحمل لا يسقط... وما انوتستقر تنكة الماءىالرابعة في مكانها حتى يوازن الحمل تماما ... ويسير الحمار في ظل هذا التوازن إلى غايته ...
يستمر نقل الماء إلى أن تمتليء البراميل ، ... وتكون مشكلتي دائما في النقلة الأخيرة، لأنها غالبا ما تكون مكونة من تنكة واحدة ... فاذهب الى النبع، واعبيء تنكة الماء ... ثم أقف في داخل السحارة اليمنى ، واطلب من احد الموجودين تحميل تنكة الماء الوحيدة في السحارة المقابلة... واتحرك باتجاه المنزل ...
في الطريق انا المسؤول عن التوازن ببقائي ساكنا في مكاني ... واي حركة بطولية غير محسوبة كانت تؤدي إلى سقوطي انا وحمل الماء عن ظهر الحمار ...
اذا تحمست وقررت ان انتقل من السحارة إلى ظهر الحمار ، سيختل التوازن ونسقط فورا ...
واذا رأيت فتاة من بعيد وافقدتني توازني فقررت ان أقف على ظهر الحمار لإظهر لها مهاراتي في الفروسية كنت أسقط فورا ويسقط حمل الماء فورا ...
ولذلك طيلة الرحلة تكون حركاتي محسوبة بدقة وغالبا يكون السكون افضل للمحافظة على التوازن ...
الحمار ليس من مهامه المحافظة على التوازن ...
انا المسؤول عن هذا التوازن وعن سلامة وصول الأحمال إلى وجهتها النهائية ...

























