خالد القضاه يكتب : من وحي "المهمة الإنسانية" مع صقور سلاح الجو

{title}
نبأ الأردن -
منذ اللحظة الاولى التي عرفت فيها أنني سأرافق صقور سلاح الجو الملكي في مهمتهم إلى قطاع غزة لإنزال المساعدات الإنسانية على أهلنا، وأنا اشعر برهبة من ثقل الطريق وشرف التكليف.
 لكنني حين اقتربت من واقع المهمة واطلعت على تفاصيل "مهمة جيشنا" تغيب عن أعين المتابعين، عرفت اننا في بلد تحرسه سواعد لا تلين، وقلوب لا تعرف الخوف، وعنفوان يطاول العالم بعلو كعبه، فالمهمة التي يختزلها الإعلام في خبر سريع، تستغرق وقتا وجهدا لا يعرفه إلا من يكابده بكل تفاصيله.
رجال لا يعرفون الخوف، يؤمنون بالله، ويعتزون بوطن يعرف سيرتهم في "اللطرون" و"باب الواد" و"الكرامة" وعلى أسوار بيت المقدس، ويهتفون بقائد لم يغب عن مساراتهم، يقف معهم كتفا بكتف، ويرسل في العالم رسائل حتى في بيتهم الأبيض لا يجرؤ على ارسالها غيره، قال بفعله لا بلسانه أننا "هنا في غزة مع أهلنا"، لا يضيرنا من عادانا، ولا ننتظر حمدا ولا شكورا، وإنما نغامر بحياتنا لنضمد جراح الاشقاء.
وما بين جرح غائر في وعي الزمن، وجبين الأمة التي تسترق السمع والبصر على استحياء، وما بين ظلم ذوي القربى، ذلك الذي يشتد مضاضة في ليل يتسع فيه المشهد إعتاما وقتامة، وتختلط فيه المقادير وتزّور فيه الموازين ويُشق فيه "قميص يوسف" وتبدو الحقيقة أكثر ضياعا، فان الاردن قيادة وشعبا وجيشا يحملون على اعناقهم مهمة تضميد الجراح وتقديم المتاح ولو كان فيهم خصاصة، ضمن هذا السياق، الذي ضاعت فيه القيم واتسعت فيه الهوة بين الحق والباطل، على أرض الجرح الذي فتح منذ أول الخليقة وما يزال ينزف دما كلما تعثر الحق.
سرب من الطائرات الملكية يحمل علم بلادي يتصدر المشهد، كان كغيمات تتتابع خلف وميض برق لتهمل غيثها على بلاد جف فيها الضرع وانقطع فيها الزرع وعبثت بها يد الغرباء، لتغيث حبات مطرها الامل بالحياة من جديد.
وحين اقتربنا من شاطئ غزة تراءى لنا دمعة جفت في محجر كهل يرقب موعد قدومنا، وتراءى لي أم جف ضرعها وهي تنتظر "عبوة حليب" تسقط بجوارها، ووالد جريح ينتظر "زجاجة معقم" كي يخفف بها ألم طفله، ويافع راهن على أنها أردنية وكسب الرهان فرحا مرارا وتكرارا.
تراءى لنا جرح واسع ينزف بغزارة والعالم يساوم على اخلاقه التي تجمدت في ثلاجة الضمير العالمي المعتم، وأعمدة دخان تذروها ريح الحقد والعنجهية.
تراءى لنا حبل تُنشر على كتفه أثوابا خضبتها دماء وأشلاء ودموع بلون النجيع، تركها العدو بلا أصحاب ولا أهل لتجف على طريق المجازر بلا عودة، ودونما اكتراث برأي عالمي نما وتمدد حتى أصبح أشجارا.
في غزة حين تنظر بعينك من أعلى، ترى الموت يتجسد على هيئة بشر يتدافعون لالتقاط لحظة حياة، أو بقية من زمن مؤجل، موت رمادي يلف كل من تطال ألسنة حقده بأحزمة نارية ومربعات أزالت عوائل من دفتر النفوس.
حين ترى الصورة من الأعلى وعلى مقربة من الدم الساخن والجرح الطري والقلب الذي تاب عن الايمان بأي شيء، يحضر طيف جيشنا كظل في زمن حرور، يضمد جرح الطفولة، ويخفف ألم الفقد دون كلل، ويسقي أشتال الصبر التي باتت تنوء بحملها، ويعقد في ناصية الأمومة الثكلى بصيص أمل.
وحين ترى بذار الأمل التي يبذرها جيشنا فوق ما تبقّى من حياة في أرض جحد العالم فيها الحياة، وتشاهد عن قرب كيف يجهد أبناء قواتنا المسلحة في إيصال هذا الدعم، ترفع رأسك عاليا، وتعرف أن هذا الجيش العروبي الذي نذر نفسه لأمته ما كان ليخذل غزة، وما كان ليقف مكتوف الأيدي، فعمل المستحيل كي يعيد الأمل بالحياة لأهلنا في غزة.
قد يعود القلب مثقلا بالحزن والوجع لكن مسحة المحبة التي تركها جيشنا العربي على رؤوس أطفال غزة اليتامى تخفف ألمنا قبل ألمهم.
عاشت عروبتك أيها الجيش، ودام ظلك في كل مكان، وحيالله كبار البلد.
((على طريق غزة)).. نسور لا يعرفون الخوف..

 
تابعوا نبأ الأردن على