زهدي جانبيك يكتب: الاحتماء بعباءة الملك

{title}
نبأ الأردن -
حرية ابداء الرأي في الاردن محفوفة بالمخاطر ومحدودة الى درجة وضعنا ضمن فئة الدول غير الحرة في بعض التصنيفات الدولية، وهي محددة غالبا (اي حرية التعبير) بالقوانين والانظمة والتعليمات والرقابة الامنية الصارمة من جهة... والرقابة الذاتية الصارمة من جهة اخرى، وكذلك تأثرها (ما زلت اقصد حرية التعبير) الشديد جدا بحملات التضليل على وسائل التواصل الاجتماعي المدعومة احيانا بالاعلام الرسمي من خلال الفعل او الامتناع عن الفعل... واحيانا اخرى بالاعلام الاصفر.
فعلى سبيل المثال ارتفع تصنيف الاردن على مؤشر حرية الصحافة لمنظمة مراسلون بلا حدود بمقدار 9 مراكز عام 2022 وهذا انجاز يجب ان نبرزه ونفتخر به، ولذلك سارعت وكالة الانباء الاردنية "بترا" بنشر الخبر واجرت لقاءات مع كل من نقيب الصحافيين ورئيس تحرير الدستور والرأي ولم تنس الوكالة ان تقول: "يذكر أن منظمة "مراسلون بلا حدود" تقوم بإصدار مقياس يعنى بحرية الصحافة حول العالم كل عام، ويعتبر من أهم المؤشرات بمقياس حرية الصحافة ويسمى المسح السنوي بمقياس حرية الصحافة حول العالم".
ولكن عندما خسر الاردن 26 مركزا وتراجع تصنيفه حسب منظمة مراسلون بلا حدود ليصبح 146 من 180 عام 2023 بعد ان كان 120 من 180 عام 2022 لم تنشر وكالة الانباء الاردنية خبر تراجعنا هذا على نفس المؤشر،... وعندما تجرأت بعض المواقع الاخبارية على نشر الخبر خرجت مواقع "الحرب بالوكالة" لتهاجم منظمة مراسلون بلا حدود وتصفها بعدم الموضوعية وعدم الاتزان وانها "تضليل بلا حدود" ...بالاضافة الى مهاجمة كل من نشر الخبر على الرغم من ان مؤشرات "فريدوم هاوس" و "BTI للتحول الديوقراطي والسياسي" و "ليجاتوم" (الذي تعتمده الحكومة لتقييم ادائها) كلها تؤكد تراجع الاردن في مجال الحريات والحريات الصحفية وحرية التعبير والرأي.
مثل هذا السلوك الرسمي يرسخ الاعتقاد لدى المواقع الاخبارية والمواطنين بشكل عام ان التصفيق الدائم والمديح الدائم فقط هو المسموح بنشره،... وان النقد واظهار الجوانب السلبية ما هو الا "سوداوية" و "سلبية" و "صادر عن قوى الشر المؤدلجة" و "أصحاب القلوب السوداء الذين بلا خلق كريم" ، بل ان بعض المواقع المؤازرة تلجأ الى التخوين والتشكيك بالولاء للدولة والتشكيك بوطنية المنتقدين...
لكن الاخطر من ذلك ان هذا السلوك الحكومي يؤدي الى فقدان ثقة المواطن بحكومته في الاردن كما تدل على ذلك استطلاعات الرأي وكما تؤكده الشكاوى المستمرة من بعض رؤساء الحكومات الاردنية السابقين والقى بعضهم باللائمة على مواقع التواصل الاجتماعي لتبرير انخفاض شعبيتهم او عدم ثقة المواطن بحكوماتهم.
مثل هذه الخطورة تجلت بوضوح مؤخرا في تعاملنا مع العدوان على غزة العزة... اذا لا ينكر المجهود الهائل الذي يبذله الملك ويقدمه الاردن لانهاء العدوان على غزة الا جاحد اعمى لا يرى الشمس في وضح النهار.
ومع ذلك فقد اضاعت الحكومة معظم هذه الجهود الملكية وفضلت الاحتماء بعباءته بدلا من الاشتباك الايجابي مع الداخل الاردني لفتح المجال امام الجهود الملكية لتحقيق الاولوية الاولى للاردن والمتمثلة بوقف الحرب فورا كما طالب ويطالب به الملك.
بل ان مثل هذا السلوك الاعلامي الحكومي ادى الى لجوء الملك الى تعريض امنه الشخصي وامن ولي العهد وشقيقته الاميرة سلمى الى الخطر دون اي داعي سوى التغطية على قصور الحكومة في الاشتباك الايجابي مع القوى الشعبية ووسائل الاعلام والتواصل الاجتماعي.
كيف ذلك؟؟؟
الملك بدأ هجومه السياسي والدبلوماسي لوقف الحرب وبدأ باستخدام ادواته الدبلوماسية بعد ان رفع السقوف امام وزير الخارجية ليشكل رأس الحربة في هذا الهجوم ، وبدأ الضغط يؤتي ثماره.
لكن الحرب المعاكسة بدأت بتسريب الاخبار عن طائرات نقل امريكية تستخدم المطارات او الاجواء الاردنية لايصال الدعم الى اسرائيل ... اصبحت هذه قضية رأي عام لم تحسن الحكومة التصدي لها وفشلت في اقناع المواطن او المراقب بروايتها ... فخرج الناطق باسم القوات المسلحة الى الساحة،... والاردني بشكل عام يصمت اذا نطق الجيش بغض النظر عن قتاعاته.
استمر الملك بتركيزه على الدول الاوروبية ومنظمات الامم المتحدة لتحقيق الهدف الرئيس الا وهو وقف العدوان الغاشم...
ومرة أخرى بدأ الهجوم المعاكس لاظهار ان الاردن يقف في الجانب الاخر عن طريق تسريب معلومات رسمية وشعبية اسرائيلية عن الجسر البري من الامارات الى اسرائيل، وبدل لوم المنبع الاماراتي او الترانزيت السعودي تم توجيه الهجوم على الاردن ، وفشلت الحكومة في الاشتباك مرة اخرى ، فاوعز الملك الى الجيش لارسال المستشفيات الميدانية الى رام الله وخان يونس، والمساعدات الى رفح برا وبحرا وجوا...
ولكن كل من يعرف الف باء السياسة لا شك انه يعلم انك لا تستطيع ان تأخذ دون ان تعطي... وهكذا كان لا بد من المحافظة على التوازن حتى نتمكن من ادخال المستشفيات ليرى الجميع اننا مع الاهل في الضفة والقطاع واننا نبذل ما نستطيع.
وكلما زادت حدة الهجوم السياسي والدبلوماسي الاردني ، زادت محاولات الالهاء والتشتيت، ومن هنا عاد التركيز على الجسر البري والبندورة والخضار والفواكه لتشتيت تركيزنا على الهدق والالتفات الى تحقيق انتصارات تكتيكية بدلا من تركيزنا على الهدف الاستراتيجي الاهم وهو وقف الحرب.
وللمرة الثالثة فشلت الحكومة في الاشتباك الايجابي مع الداخل الاردني ولجأت الى مبررات هزيلة مثل " لا نستطيع ان نمنع التصدير" او/ و"اللي بصدر بنحكيله استحي على حالك" و/أو "لم يتم اي تغيير على الترانزيت منذ 25 سنة" (وكان هذا اسوأ تصريح لانه ربط اليوبيل الفضي للملك بالتصدير وكان هذا خطأ قاتلا يستوجب الاقالة) ...
ومرة اخرى اختار الملك حماية الحكومة بعباءته فاصدر الاوامر بموضوع الانزال الجوي للمساعدات الانسانية بمشاركة فرنسية، فتمت التغطية على قصور الحكومة في الاشتباك الاعلامي،... وبالمناسبة... كنت متأكدا بان عملية انزال المواد الاغاثية ستتكرر وسيشارك بها كل من الامارات ومصر... الامارات لانها فعلت ذلك في المرة الاولى وكان هناك انزالا مشتركا بطائرات اردنية...
ومصر حتى تغطي على موضوع معبر رفح الذي طرحته اسرائيل في محكمة العدل الدولية... وكنت اتمنى ان لا تلجأ مصر الى هذا الاسلوب وان تختار بدلا منه المواجهة المباشرة وفتح المعبر فعلا امام دخول المساعدات.
وللمرة الثانية يشارك الملك شخصيا بعملية الانزال، وكنت اتمنى ان لا يشارك ... وكان يجب ان تمنعه دائرة المستشارين المحيطة به من المشاركة ... اذ لو كان الطيران فوق غزة خطيرا ، فلا يجوز تعريض حياة الملك للخطر من اجل انزال مساعدات انسانية...
وان كان الطيران فوق غزة منسقا ولا يشكل خطورة على حياة الملك فلا موجب لمشاركته في عملية روتينية للاغاثة... هذا رأيي
اخيرا:
عندما نقول ان الحريات تراجعت في الاردن وفقا للمؤشرات الدولية، فلا داعي لمهاجمة المؤشرات او مهاجمة ناقل الخبر ... بل الاستماع ودراسة الاسباب ووضع الحلول المناسبة او طلبها.
لان انكار الاخبار لا يلغيها ولا ينفي وجودها بل يدفع الناس الى البحث عن مصادر الخبر ... وعدم التعامل مع الحدث داخليا سيدفع الجميع الى التعامل مع المصادر الخارجية المفتوحة...
والاهم من كل ذلك، اذا كنت لا تعلم ان هناك مركزا امريكيا متقدما عند البرج 22 ، فقل : لا اعلم...فمن قال لا اعلم فقد افتى... وخير لك ان تقول لا اعلم على ان تنكر وجود القوة داخل الاردن مساءا ثم تعود لتتراجع عن تصريحاتك صباحا ...فهذه بالضبط الوصفة السحرية النموذجية لفقدان ثقة المواطن بكل ما يصدر عنكم... وما ينطبق على هذا الخبر ينطبق على كل الاخبار.
همسة الى الحاج ابو هاني:
لا يمكن الحصول على اجماع الاردنيين على اي شئ، فلا تبحث او تشغل نفسك بالبحث عن هذا الاجماع. وكما تعلم فان الاردني صاحب نخوة وفزعة ومهما طلبت منه ستحصل عليه فلا تتردد بالطلب... اشرح لنا الوضع، بشفافية ، وصدق, فستجد ان من يتفهم موقفك مهما كان ويتفق معك كثيرون ، وبالمقابل فإن من لا يتفهم موقفك مهما كان ولا يتفق معك كثيرون ايضا ... فخير لك ان تنشغل بما تقتنع به ...وتستمع لمن ينتقدك وينتقد اداءك وحكومتك... من ان تنشغل بتصنيف الناس الى ابيض واسود وسلبي وايجابي وسوداوي وبيضاوي ومتفائل ومتشائم ... فهذا التصنيف لن يفيدك او يضرك بشيء ...

تابعوا نبأ الأردن على