عمالة الأطفال.. رجال قبل الأوان وأحلام في مهبّ الريح

{title}
نبأ الأردن -

نبأ الأردن-يواجه أطفال قدرهم في سعي دائب وراء دنانير معدودة على أمل تخفيف وطأة الفقر الذي تعاني منه أسرهم، ولسان حالهم يقول إنهم غدوا رجالا قبل الأوان، وسط مؤشرات اقتصادية لا تنبئ بما هو أفضل.





سالم (اسم مستعار) ابن التسع سنوات، واحد من هؤلاء الأطفال الذين التقتهم وكالة الأنباء الأردنية (بترا) واستمعت اليهم، فكان في جعبته ما لا يُعدُّ من قصص المعاناة، وهو إذ يتحدث، فكأنّما لسانه ينطق عن خبرةٍ لا تتأتى إلا لرجل صاغته التجارب.
في جعبة (سالم)؛ الذي اتخذ من مساعدة المتسوقين في الأسواق حينا وجمع الخردة حينا آخر، قصص قاتمة انطبعت في ذاكرته أكثرها خدشا لمشاعر الطفولة صورة رفيقه في المعاناة، حين دهسته سيارة بينما كان يقطع الشارع حاملا على ظهره صندوقا من الخردة.
ورغم هذا يطلق سالم الذي حرمته الأقدار من حنان الأب، العنان لأحلامه متحررا من قبضة الحاجة وبؤسها، موضحا أنه سيعمل على إسعاد أسرته، وينتشلها من ظروفها القهرية، مُخاطرا بحياته حيث يرى كل يوم ما لا يراه زملاؤه على مقاعد الدراسة التي لا تغيب عن مخيلته لحظةً.





يجمع سالم مثل كثيرين غيره خردة النحاس والحديد، ويبحث عن أثقلها، فالمردود عند صاحب المحل يقاس بالوزن، ما يضطرهم إلى حمل أوزان لا تطيقها أجسامهم ليحصل على ثلاثين دينارا على مدى شهر كامل يتم حسم عشرة دنانير أجرة نقل الخردة.
"ماجد" ابن العشر سنوات طفل آخر يشاطر سالم معاناته، ويذهب مع أخيه الأصغر يوميا إلى جمع خردة النحاس وحرقها، فأصيب بالربو ونغزات في القلب وأوجاع في العظام والمفاصل تمخضت عن ديسك في الظهر، اضطر إلى تحمّلها، بسبب مرض أبيه الذي كان يعمل في المهنة، وبات طريح الفراش بأوجاع حادة.
يحلم ماجد، بأن يكون مهندسا في يوم من الأيام، وهو الذي يذهب إلى "خرابات" مهجورة لجمع ما يتيسر من الخردة، موضحا أن لكل منطقة أناسا متخصصين بارتيادها عادة نظرا لبعدها.





الطفل جابر (13 عاما)، يعمل في محل بيع خضراوات، يقول والأسى يعتصر قلبه، "أُجبرت على الشغل، ولي فيه ثلاث سنوات ضاعت من عمري، وأعمل 11 ساعة في اليوم مقابل 3 دنانير. تركت أخيرا هذا العمل وعدت إلى المدرسة في الصف الخامس بدلا من الصف الثامن.





"الطفل حفّار القبور"





لكن الطفل "حامد" (11) عاما يعمل حفّارا للقبور، ورغم الرهبة والخوف اللذين لازماه في البداية، إلا أنه اعتاد على ذلك، فالحياة صعبة، كما يقول، مضيفا "ليس لدي معرفة بأي عمل آخر، عشت بين القبور، وأنا أنظر إلى أطفال يلعبون، كنت أتمنى أن ألعب معهم، أو أذهب إلى ملعب كرة القدم لأمارس رياضتي المفضلة".





في الزرقاء وسحاب والرصيفة، تكثر الأعمال التي لا تحتاج إلى خبرة أو مهارات أو شهادات، حسب أطفال عاملين يوضحون ان في كل مدينة مهنا تخصها دون سواها، فمنهم من يعمل في المصانع وجمع الخبز اليابس وجمع الخردة والحديد والبحث في الحاويات لعل فيها ما يسد الرمق.





ولعل عوامل مزمنة ومتعددة كان آخرها جائحة كورونا، ألقت ظلالا ثقيلة على الواقع الاقتصادي، وفي هذا تقول دائرة الإحصاءات العامة، إن معدل البطالة للربع الثاني من العام الحالي وصل إلى 22.6 بالمئة، في وقت يحذّر خبراء من تفاقم عمالة الأطفال نتيجة تردي الأوضاع الاقتصادية، داعين الى النظر في السياسات الاقتصادية والحماية الاجتماعية بحيث تجمع بين الأهداف الإنمائية والإنسانية.





160 مليون طفل عامل في العالم





أما الجمعية العامة للأمم المتحدة فتشير على موقعها، إلى أن في العالم اليوم 160 مليون طفل منخرطون في عمالة الأطفال بعضهم لم يتجاوز الخامسة من عمره، معتبرة أن أنظمة الحماية الاجتماعية الحكومية ضرورية لمحاربة الفقر والضعف، والقضاء على عمالة الأطفال ومنعها.





ويؤكد هذا المنبر الأممي أن الحماية الاجتماعية حق من حقوق الإنسان وأداة سياسية فعالة لمنع الأسر من اللجوء إلى عمالة الأطفال في أوقات الأزمات. ومع ذلك، ومنذ عام 2020 وقبل أن تنتشر أزمة كورونا، تمت تغطية 46.9 بالمئة فقط من سكان العالم بشكل فعال من خلال حماية اجتماعية واحدة على الأقل، في حين تُرك 53.1 بالمئة المتبقية بلا حماية يندرج تحت هذه النسبة 1.5 مليار يفتقرون للحماية الاجتماعية.
على المستوى العالمي، يبلغ الإنفاق الوطني على الحماية الاجتماعية للأطفال 1.1 بالمئة فقط من الناتج المحلي الإجمالي وتشير التقديرات إلى أنه بدون استراتيجيات حماية قد ترتفع عمالة الأطفال بمقدار 8.9 مليون بحلول نهاية عام 2022، بسبب ارتفاع نسب الفقر .
محليا، تركّز الاستراتيجية الوطنية للحد من عمل الأطفال 2022-2030، على البرامج الوقائية للحد من عمل الأطفال، من خلال وضع إجراءات استباقية كبرامج الدعم للأسر، وبرامج التمكين الاقتصادي، ودعم مشاريع تعزيز الإنتاجية والمشاريع الصغيرة، والتشبيك بين الاستراتيجية ذاتها واستراتيجية الحماية الاجتماعية للعام 2019.
وتشير الاستراتيجية إلى أن عمالة الأطفال من القضايا المعقدة لتعدد أسبابها، إذ تتداخل مع العوامل الاقتصادية الاجتماعية والثقافية، ويعد الفقر واحدا من أبرز مسببات عمل الأطفال، في حين قدرت دراسة لمنظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونسيف) الصادرة عام 2017 نسبة الفقر متعدد الأبعاد بين الأطفال بـ 20 بالمئة.





وهمٌ يتوسع اجتماعيا





وبحسب رأي متخصص، فإن أسباب فقر الأسر تعود لغياب مقومات ممارسة العمل المنتج، سواء كان بمهارة أو وظيفة أو المال أو الأرض، وكذلك لاعتقاد بعض الأسر أن فوائد العمل أكبر من فوائد التعليم، أو لأن نوعية التعليم متدنية، فضلا عن تأثير الوالدين على الطفل حيث يفضل الوالدان الحاق أطفالهم بسوق العمل على بقائهم على مقاعد الدراسة، وفي المقابل تفضل بعض الجهات المشغلة تشغيل الأطفال للتحايل على الحد أدنى للأجور.





مديرة جمعية "تمكين" للمساعدة القانونية وحقوق الإنسان ليندا كلش، توضح أن ظاهرة عمالة الأطفال بازدياد، لأنها مرتبطة بالبطالة ومستويات التنمية وزيادة رقعة الفقر.





وتضيف، ان كثيرا من أرباب العمل يلجأون إلى تشغيل الأطفال بشكل استغلالي بشع، فهم ليسوا مضطرين لتسجيلهم بالضمان الاجتماعي، ولا يعطون الطفل العامل أجرا مكافئا لتعبه، وفي المقابل يشكل التفكك الاسري عاملا مهما بزيادة عمل الأطفال.
وأشارت كلش الى أهمية البيئة التعليمية في الحد من البطالة، مشيرة الى أن عمالة الأطفال يعني زيادة نسبة الأمية وضعف المهارات الأساسية والكتابية واللغوية والإملائية نتيجة التسرب من المدارس، والترفيع التلقائي.





ودعت إلى تحديث إحصائية عمل الأطفال لمكافحة هذه الظاهرة، وتركيز الجهود على الأماكن التي يكثر فيها عمل الأطفال، وتعزيز جهود المفتشين، مؤكدة أهمية دور الفريق الوطني المكون من وزارات التربية والتعليم والصحة والتنمية الاجتماعية، والعمل، والداخلية والأمن العام، والمجلس الوطني لشؤون الأسرة، وغرفة التجارة والصناعة في مكافحة عمل الأطفال.





طفولة تشوبها مرارة العمل والفقر
يقول استشاري الأمراض الصدرية وخبير العدوى التنفسية والعناية الحثيثة، الدكتور محمد حسن الطراونة، إن الأطفال الذين يعملون بمحلات صيانة السيارات يتعرضون كثيرا لزيوت وشحوم وروائح، خاصة وأنهم يقومون بعملهم تحت السيارات ما يجعلهم عرضة لاستنشاق كميات كبيرة من روائح الزيوت التي تؤدي إلى الإصابة بالربو وغير ذلك من الأمراض.





ويشدّد الطراونة على خطورة عمل الطفل في المهن الخطرة، ومنها جمع الخردة وحرقها، لما ينتج عنها من أدخنة والتعرض للغبار والأتربة، وكذلك العمل في المصانع والورش التي لا يتم فيها مراعاة شروط الصحة المهنية والسلامة العامة، داعيا الى تشديد الرقابة على البيئة المهيئة لعمل الأطفال.
وأشار الى أن الجهاز التنفسي هو الأكثر عرضة للأمراض المزمنة قبل سن 18 عاما ما يعني تزايد احتمالات إصابة الأطفال العاملين بأمراض الربو والانسداد القصبي والتليف الرئوي، والالتهابات الرئوية، والالتهابات الرئوية الاستنشاقية، لافتا الى أن علاج مثل هذه الأمراض يثقل كاهل الاقتصاد الصحي.





من جهتها، تقول أستاذة علم النفس التربوي في جامعة البلقاء التطبيقية الدكتورة منى أبو طه، ان من أبسط مبادئ وأسس التربية الأسرية، أن تخضع التربية لقواعد النمو والمساواة في معاملة الأبناء وتربية الطفل.
وأشارت ابو طه الى الفهم الخاطئ عند بعض الأسر حين يميل الأب الى تعليم ابنائه مهنته إذا كان يمارس عملا حرا أو تجارة، موضحة أنه لخوف الطفل من الحرمان والعقاب الصارم يعيش الطفل في صراع بين تنفيذ رغبة والديه وبين رغبته في التعليم واختيار مهنة المستقبل باستقلالية.
وتشدد على أنه لا بد أن يدرك الوالدان أن للطفولة مطالب يجب أن يستجاب لها بحكمة لتحقيق نمو متوازن للطفل أما الآباء الذين يتعجلون نمو أطفالهم، ويحملونهم مسؤوليات تفوق أعمارهم فهم يسيئون إلى أبنائهم ويحرمونهم من سعادة الطفولة.





وبحسب نتائج تقييم أجرتها مؤسسة إنقاذ الطفل- الأردن العام الحالي حول عمل الأطفال، ضمن برنامج الحد من عمل الأطفال الذي ينفذ بالشراكة مع اليونيسف على مجموعة من المنتفعين من المشروع، فإن الفقر إلى جانب غياب المعيل يعد سببًا رئيسا للتسرب من المدرسة وعمل الأطفال للذكور فضلا عن بعض الأعراف الاجتماعية التي تحمل الأبناء الذكور مسؤولية إعالة العائلة حتى وإن كانوا أطفالًا.





وتشير مديرة الإعلام والمناصرة في مؤسسة إنقاذ الطفل نادين النمري إلى المادة (33) من قانون الأحداث والتي تعتبر الطفل العامل محتاجا للحماية والرعاية.
واعتبرت النمري عمل الأطفال استغلالا وانتهاكا لحقوق الطفل وشكلا من أشكال العنف، لافتة الى أن آثار عمالة الأطفال لا تنحصر على الطفل وأسرته، وإنما تمتد إلى المجتمع.
وأشارت إلى ازدياد ظاهرة عمالة الطفل بشكل خاص بعد أزمة كورونا، وتغيّر الاتجاهات المجتمعية تجاه عمل الطفل، الأمر الذي يستدعي الحد ما أمكن من هذه الظاهرة ورفع الوعي المجتمعي بشأن خطورتها.





عمالة الأطفال تهديد خطير للبنية الاجتماعية





يقول رئيس بيت العمال للدراسات المحامي حمادة أبو نجمة، ان مشكلة عمل الأطفال تشكل تهديدًا صريحًا للبنية الاجتماعية مع ارتفاع معدل البطالة إلى مستوى قياسي.
ويضيف، ان هناك حاجة ماسة لتحديث البيانات الخاصة بعمل الأطفال، لقياس مدى الأثر الذي سببته الجائحة، حيث لا تتوفر سوى أرقام المسح الوطني لعمل الأطفال عام 2016، الذي كان يشير إلى أن عدد الأطفال العاملين في الفئة العمرية (5-17 سنة) كان يبلغ حوالي 76 ألف طفل.





ويشير أبو نجمة الى ان الأردن صادق عام 1989 على اتفاقية حقوق الطفل التي أصدرتها الجمعية العامة للأمم المتحدة، وعلى اتفاقيتي العمل الدوليتين رقم (138) بشأن "الحد الأدنى لسن الاستخدام" عام 1997، ورقم (182) بشأن "حظر أسوأ أشكال عمل الأطفال" عام 2000، واللتين تلزمان بتوفير التعليم الأساسي المجاني وإعادة تأهيل الأطفال العاملين ودمجهم اجتماعيا مع العناية بحاجات أسرهم.





واكد ان قانون العمل الأردني جاء منسجما مع هذه المبادئ، فمنع تشغيل الحدث الذي لم يكمل السادسة عشر من عمره بأي صورة من الصور، كما منع تشغيله في الأعمال الخطرة أو المرهقة أو المضرة بالصحة قبل بلوغه الثامنة عشر من عمره، وعاقب صاحب العمل المخالف لأي من هذه الأحكام بغرامة تتراوح بين 300- 500 دينار، إلا أن هذه الأحكام لم تفلح في الحد من هذه المشكلة التي ما زالت تتفاقم سنويا.





استغلال لحق الطفولة





يقول مسؤول حالات عمل الأطفال في جمعية رواد الخير لبناء المجتمع المحلي، ماهر السميران، إن الجمعية بدأت خلال عام 2021 بتنفيذ مشروع الحد من عمل الأطفال الممول من منظمة اليونيسف (مكتب الأردن) في لواءي الرصيفة وسحاب، تم من خلاله تقديم خدمات إدارة حالات حماية الاطفال المتخصصة، وخدمات دعم التعليم والمشاريع ذات الأثر السريع، وقامت الجمعية أيضا -بالتعاون مع عدد من المؤسسات الرسمية كوزارة التنمية الاجتماعية ووزارة العمل- بتحقيق بعض الإنجازات سنة 2021، وبناء عليها، تم تمويل المشروع للسنة الثانية على التوالي حيث يوفر مكتب اليونيسف الدعم المالي والتقني والفني، بالإضافة للدعم والمساعدة في التخطيط وتنفيذ نشاطات المشروع.





وزارة العمل بالمرصاد
من جهتها، تؤكد وزارة العمل في معرض حديثها مع (بترا) حول عمالة الأطفال، انها تبذل جهودا عظيمة في الميدان للحد من ظاهرة عمل الأطفال، لكن عدم كفاية كوادر التفتيش لتغطية كافة المنشآت في المملكة تعتبر من اهم التحديات.
وقامت الوزارة في الفترة الماضية بإنشاء غرفة التحكم والسيطرة لقياس جودة الخدمة المقدمة ولتوثيق الزيارات التفتيشية، عن طريق تزويد المفتشين في الميدان بكاميرات لتوثيق الزيارات التفتيشية ولقياس جودة الخدمة المقدمة بحرفية عالية.





كما تنفذ الوزارة حملات ربعية متخصصة للتفتيش على عمل الأطفال في جميع المحافظات والقطاعات خاصة القطاعات الأكثر تشغيلا للأطفال، كما أن هناك تفتيشا على عمل الأطفال خلال الزيارات اليومية لمفتشي العمل ويتم اتخاذ الإجراءات القانونية لتحديث التشريعات المتعلقة بعمل الأطفال ومراجعتها.





وتلفت الوزارة إلى ان الخطة السنوية لمديرية التفتيش، يتم من خلالها توجيه الزيارات التفتيشية والحملات المتخصصة على عمل الأطفال واتخاذ الإجراءات القانونية بحق أصحاب العمل المخالفين.


تابعوا نبأ الأردن على
تصميم و تطوير