فرنسا تواجه الفظائع السورية..محاكمة الأسد وتجاوز الحصانة الدولية
واجه السعي إلى تحقيق المساءلة عن الفظائع الجماعية المرتكبة إبان النزاع السوري عقبات جسيمة في بنية النظام القانوني الدولي، ولا سيما عندما يكون المتهم يشغل، أو شغل سابقاً، أعلى هرم السلطة في الدولة. في هذا السياق، تبرز الحملة القضائية الفرنسية المطولة ضد بشار الأسد، الرئيس السوري الهارب، كأحد أهم التطورات في هذا المضمار. فقد تطورت هذه الحملة من شكاوى تحقيقية أولية إلى إجراءات قضائية مباشرة، بلغت ذروتها في إصدار مذكرات توقيف دولية تتحدى، عملياً ونظرياً، مبادئ الحصانة السيادية الراسخة.
شكل انهيار نظام الأسد في نهاية 2024 نقطة تحول حاسمة، إذ أدى فقدان الأسد للحصانة الشخصية بعد الإطاحة به وهروبه إلى روسيا، بالتوازي مع التطورات الفقهية في القضاء الفرنسي، إلى خلق ظروف غير مسبوقة لمساءلة رئيس دولة سابق عن جرائم ضد الإنسانية. ويؤدي إصدار الإنتربول نشرات حمراء بناءً على مذكرة التوقيف الفرنسية إلى تفعيلها في 191 دولة عضواً، ما ينشئ آلية إنفاذ عالمية تتيح، نظرياً، توقيف الأسد وتسليمه حيثما وجد.
تطور الإجراءات القانونية: من الشكاوى التحقيقية إلى المقاضاة المباشرة
سلكت الحملة القانونية ضد الأسد مساراً تدريجياً اتسم بالانتكاسات الإجرائية والتقدم الاستراتيجي المتدرج؛ فقد بدأ انخراط القضاء الفرنسي من خلال شكاوى تحقيقية رفعها ناجون ومنظمات مجتمع مدني، ما أدى إلى فتح تحقيقات أولية في حوادث محددة، أبرزها هجمات الأسد بالأسلحة الكيميائية على الغوطة الشرقية. وقد جرى تقييد هذه الإجراءات بمبدأ الحصانة الشخصية الذي يحمي رؤساء الدول من الولاية القضائية الجنائية الأجنبية وفق القانون الدولي العرفي.
وعلى الرغم من هذه الانتكاسات، مثّل إصدار مذكرة التوقيف عام 2023 محاولة لاختراق حصانة الأسد، إلا أن محكمة النقض ألغتها ملتزمة بقواعد القانون الدولي العرفي، مؤكدة أن الجرائم الدولية لا تُعد استثناءً من الحصانة الشخصية للقادة الحاليين، مما أعطى الأولوية لاستقرار العلاقات الدولية على حساب الملاحقة الجنائية الفردية.
أدى سقوط نظام الأسد في نهاية 2024 إلى تغيير جذري؛ إذ أسفر هروبه إلى روسيا عن زوال الحصانة الشخصية عنه، ما أتاح إصدار ما عُرف بـ "مذكرة أكتوبر/تشرين الأول 2025”، ثالث وأهم إجراء قضائي موجه ضد الرئيس السابق. واستفادت المذكرة من زوال العقبات الإجرائية السابقة، ما حول الإجراءات الفرنسية من إدانة رمزية إلى مقاضاة جوهرية ذات أثر قانوني فعلي.
التعامل مع مبدأ الحصانة: الشخصية والوظيفية
تعتمد الجدوى القانونية لمذكرة أكتوبر/تشرين الأول 2025 على التمييز بين شكلين من الحصانة السيادية. أولاً، الحصانة الشخصية التي تحمي كبار مسؤولي الدولة، من بينهم رؤساء الدول ورؤساء الحكومات ووزراء الخارجية، من الولاية القضائية الجنائية الأجنبية طوال مدة ولايتهم. وقد جسد إلغاء محكمة النقض مذكرة عام 2023 التطبيق الصارم لهذا المبدأ، إذ لم يسقط هذا الدرع إلا عند انتهاء الرئاسة، ليصبح الأسد معرضاً للملاحقة عن أفعاله السابقة.
ثانياً، الحصانة الوظيفية أو الموضوعية، التي تنصرف إلى الأعمال الرسمية المنفذة باسم الدولة، وليس الشخص القائم بها. وقد شكل القرار الصادر في يوليو 2025 بشأن محافظ البنك المركزي السوري السابق أديب ميالة سابقة قضائية أثرت مباشرة في مسار محاكمة الأسد، إذ قضت المحكمة العليا بعدم جواز التذرع بالحصانة الوظيفية في مواجهة الجرائم الدولية، بما فيها الجرائم المرتبطة بالحرب الكيميائية. ووفق هذا المنطق، أصبح الأسد مواطناً عادياً لا يمكنه الاحتماء بالحصانة الوظيفية عن أفعاله السابقة.
الأطر القضائية والمحاكمة الغيابية
تستند الإجراءات الفرنسية إلى إطار متين للاختصاص القضائي المزدوج، يمكّن القضاء الوطني من العمل كوكيل للعدالة الدولية عندما تتعطل المحاكم المحلية أو الدولية. ويتألف هذا الإطار من ركيزتين أساسيتين:
- الاختصاص القضائي خارج الإقليم بناءً على وجود ضحايا فرنسيين/سوريين ("الشخصية السلبية”)، ما يتيح مقاضاة الجرائم المرتكبة في الخارج عند وجود ضحايا فرنسيين.
- الولاية القضائية العالمية، التي توسع نطاق الاختصاص ليشمل الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب بغض النظر عن مكان ارتكابها أو جنسية الجاني أو الضحية.
من السمات المميزة للنظام الفرنسي السماح بالمحاكمة الغيابية، على خلاف المحكمة الجنائية الدولية التي تشترط حضور المتهم. وبهذا، تتحول مذكرة التوقيف الصادرة في أكتوبر 2025 إلى آلية لإنشاء سجل قضائي، يسمح بتقديم الأدلة وسماع الشهود وإصدار حكم علني، حتى في غياب المتهم.
تحديات التنفيذ واستراتيجية سلسلة القيادة
رغم أن لجوء الأسد إلى روسيا يعيق التنفيذ الفعلي، فإن مذكرة التوقيف تحد من قدرته على السفر أو الوصول إلى الأنظمة المالية في الدول التي تلتزم بالالتزامات القانونية الدولية، محصورة إياه فعلياً داخل الأراضي الروسية أو في دول محدودة موالية لها.
اعتمدت وحدة جرائم الحرب في فرنسا استراتيجية "التحقيق الهيكلي”، برسم خريطة لسلسلة القيادة بأكملها، من الفرقة الرابعة إلى مركز الدراسات والبحوث العلمية، لتوجيه ملفات قضايا ضد قادة متوسطين أكثر عرضة للتوقيف من الأسد نفسه. ويضمن هذا النهج تفكيك البنية الإجرامية للنظام حتى لو ظل قمة هرم السلطة بعيدة المنال مؤقتاً.
خاتمة
تمثل الإجراءات الفرنسية ضد الأسد نقلة نوعية في تطبيق مبدأ الولاية القضائية العالمية على رؤساء الدول السابقين. من خلال تجاوز "فجوة الحصانة” عبر انهيار نظام الأسد وحكم ميالة بشأن الحصانة الوظيفية، أرست المحاكم الفرنسية نموذجاً لمقاضاة الدكتاتوريين المخلوعين. وستتيح المحاكمة المتوقعة عام 2027 قدراً من العدالة للضحايا، وتعد اختباراً لفاعلية المحاكم الوطنية في إنفاذ القانون الإنساني الدولي. وتؤكد الحملة الفرنسية أن مساءلة مرتكبي الجرائم الفظيعة يمكن أن تتحقق عبر الأنظمة القانونية الوطنية المجهزة بالأطر القضائية المناسبة والإرادة السياسية

























