عبدالهادي راجي المجالي يكتب : الدحيح
نبأ الأردن -
... مات الفتى ، ..استشهد ولم تعرف عينه غير الحرب ، اختلفنا أم اتفقنا ..لكن (أ ن س ال ش ر يف ) ، صار أيقونة عالمية ، قدم مفهوما جديدا لمعنى الشباب ، لمعنى الوطن ..لمعنى الحقيقة ، ويذبحني السؤال لماذا لايوجد لدينا مثله ؟
في الأردن ، وفي اليوم الثاني لاستشهاد الفتى ..كنت ملتحفا حزني عائدا من عملي للمنزل ، كان على المذياع بنت تتحدث عن مهرجان الكوميديا الأردني ، وتروج ( للدحيح) ...وكل متسابق يجيب عن اسم أغنية للفنان مصطفى قمر ، يربح تذكرة لمهرجان الكوميديا وبالتحديد لمشاهدة (الدحيح) ...
بحثت عن (الدحيح) في محرك البحث (جوجل) ، وتبين لي أنه مدون مصري يشتهر بالحديث عن الخضار والفواكة واللحوم ، بصراحة ما يقدمه لايرقى لا للكوميديا ولا للمعرفة ، لكن تخيلوا عمرو أديب يطلق على نفسه اسم (الدحيح) أو تخيلوا (منى الشاذلي ) تلقب نفسها (بالدحيحة) ...اللقب مبتذل ، وفي قاموس اللغة يعتبر اللفظ حوشيا ومنفرا ، ومن المستحيل مثلا أن تقوم محطة مثل (البي بي سي) باستعمال هذا المصطلح على أثيرها ، ولو كانت البنت التي تقدم البرنامج ، تفهم معنى الذائقة اللغوية لما استعملت الاسم أصلا عبر أثير الإذاعة .
( أ ن س ) كان يروج لمفهوم التحرر الوطني ، لمفهوم الإعلام الحر ، لمفهوم الدم الخضيب والشهادة ، لمفهوم الحرية ...وفي النهاية وضع اسمه في خارطة الشرفاء في السطر الأول ، وللأسف نحن شبابنا يتقاطرون لربح جوائز من أجل مشاهدة مهرجان الكوميديا ومشاهدة (الدحيح) .
معاذ الكساسبة أصغر سنا من ( أ ن س) ، حين تسلم الملك عبدالله سلطاته الدستورية ، كان في الصف السابع ، لكنه قاد الأف (16) ..نفذ الأوامر ، قاتل ببسالة وظلم كما لم يظلم أي جندي في التاريخ ، سار إلى المحرقة بوجه مرفوع ...لم يرتجف أو يتردد أو يصرخ ، لماذا بدلا من هذا التهافت على (الدحيح) لماذا لا نؤسس أكاديمية (رماية) باسم معاذ يتعلم فيها أولادنا أساسيات السلاح ، وأساسيات الرجولة والعسكرية .
راشد الزيود ، استشهد والإصبع على الزناد ....معاذ الحويطات ، لم يخالف الأمر وسار للشهادة راضيا بقدره ، ولماذا أيضا حين استبيحت قلعة الكرك ، ركض الشباب إليها من كل العشائر ، ولو تركوهم لقاتلوا بإظافرهم ، وارتضوا دمهم كعربون وفاء للكرك .
نحن في الأردن لدينا ( الألوف ) مثل ( أن س) ، لكن الحواضن التي كانت ترعى الشباب ، وتزجهم في الإطار الوطني وإطار الهوية والرجولة ذبحناها ....نحرنا النادي الفيصلي من الوريد إلى الوريد ، كان يمثل الشغف والإنجاز ويرفع اسم البلد في المحافل العربية والاسيوية ، نحرنا جريدة الرأي من الوريد إلى الوريد ....صارت المواقع فيها مجرد قرارات عابرة، وهي الصحيفة التي حملت دم وصفي التل ، وقادت حركة التنوير في الأردن وخرجت أهم السياسين والأدباء ، وأصحاب الروح الوطنية الجامحة ..
قتلنا التلفاز الأردني ، لابل نحرناه مثل الشاة ، حين أخضعناه للتجريب وللتغريب ..واتهمناه بالتخلف ، وعدم مواكبة الإعلام العصري ...والتلفاز هو من صدر الهوية الوطنية ، هو من أنتج البيان السياسي ، هو من صدر الدراما البدوية ، هو من رعى اللحن والوتر والحناجر ، هو من أسس من العسكرية الأردنية هوية للدولة لاتذوب ولا تتبخر .
نحرنا الإذاعة الأردنية ، فبدلا من أن نتحالف مع قيم الإعلام الرصين ، والوعي صرنا نتحالف مع إذاعات : الغنج ، المياصة ، الدلع .
ذبحنا معسكرات الحسين للشباب ، واستبدلناها بمهرجان الكوميديا ، وحفلات عمرو ذياب و(الدحيح) ...
هدمنا أهم مبنى ، طبخت فيه قرارات الحرب ، وما يتعلق بمصير الدولة ...مبنى القيادة والتي كان قلبي يرف مثل جناح طائر حين أمر من جانبه ، واستبدلناه بالبوليفارد ..استكثرنا أن نطلق ولو اسما عربيا على المكان ، استكثرنا على التراب الذي حمل حابس والأمير زيد وفتحي أبوطالب ، وعبدالحافظ مرعي ، أن يكون له اسم عربي.
نحرنا كل الحواضن التي تتحدث عن الهوية ، اللويبدة حولناها من مكان تراثي يشهد على فن العمارة ، وحياة المثقف ، والفسيفساء الإجتماعية ، إلى مكان للمقاهي والأراجيل ، ومجموعات (الأن جي أوز) ..التي تمارس التسول .
هدمنا الضمير الوطني ، أنتجنا شرخا في الهوية ...
في النهاية ، لاتلوموا الشباب في الأردن ، ( فالدحيح) سيأتي هنا ويغادرنا ب (50) ألف دولار ، ومهرجان الكوميديا سيعقد ، وسيتقاسمون الأرباح ..وسيقدم فيه بعض (النكات السمجة) ، ومهرجان الطعام سيينتهي وستبقى (ام العبد) ، تسأل عن بهارات (المقلوبة) التي تذوقتها ...
وإذاعات (المياصة) صارت بديلا عن الرأي والإذاعة والتلفزيون الأردني، صار الغنج والحديث باللبنانية الفصيحة ، بدلا عن الهوية ...
لقد حيكت المؤامرة على الوجدان الأردني في ليل دامس ، كل ما يحدث هو تواطؤ على وجداننا ، لا تلوموا الشباب أبدا ...
أما أنا فأعترف لقد اغتالوا قلبي ، اغتالوه تماما ...
يا مرحبا (بالدحيح) ..يا ترى هل سيقومون بدعوته إلى منسف ؟
عبدالهادي راجي

























