رمزي الغزوي يكتب : "لابوبو" مرآة لعصرٍ هشٍّ

{title}
نبأ الأردن -
خرجت لابوبو من الظل إلى الضوء ذات مساء رقمي. بلا تمهيد ولا إعلان، اقتحمت الوعي الجماعي، واستقرت في حضن الأطفال، وحقائب النساء، ونقاشات العائلات المترددة. لم تحمل وعدا تربويا، ولا رسالة إنسانية، بل بدت كأنها جاءت من فراغ أنيق، آسرة في صمتها، مريبة في شعبيتها المفاجئة.
ما يُدهش في لابوبو ليس شكلها، بل أثرها. هي ليست دمية محشوة فحسب، بل كائن ناعم يُستدعى لتأدية أدوار أكبر من حجمه. لعبة لا تتكلم، لكنها تعبّر عن هشاشة الشعور الجمعي في زمن تتقلّب فيه القيم، وتُفصّل الرغبات حسب الطلب. في عالم أعيد فيه ترتيب المعنى، باتت الدمية التي تلمع في الواجهة، هي الأكثر اقتناء، لا لأنها تحمل قيمة، بل لأنها مرئية.
لا يخفى أن لعبة مثل لابوبو لا تشبه ما سبقها من دمى الطفولة. إنها تُسوّق في صناديق مغلقة، لا يُعرف محتواها مسبقا، ما يفعل في الدماغ البشري ما تفعله المكافأة المفاجئة، ويُفعل سلوك التعلّق السريع، والإدمان الخفيف. إنها تُشغّل نفس الآليات العصبية التي تغذي شهوة المقامرة، أو نهم تصفح الشاشات. من الخارج تبدو بريئة، لكن داخلها يسكن نظام مكافآت معقّد، محكوم بالخوارزميات، والتكرار، والتفاعل.
علماء النفس يلمحون إلى ما هو أعمق. يقولون إن انتشار لابوبو يعكس حاجة متزايدة إلى الراحة اللحظية، إلى التحكم في عالم يفلت كل يوم، إلى التعلق بشيء ناعم، لا يُحاكم ولا يخذل. هي كائن يوفر احتواء آنيا في بيئة رقمية باردة، ويمنح ملامح لمعنى داخلي غير مصاغ. ليست موضة إنما استجابة صامتة للإرهاق والضياع.
بالنسبة للأطفال، تتحول إلى أداة تعبير، يتماهى معها الشعور الخام. يمنحونها أسماء، ويحمّلونها شخصيات، ويجعلونها متنفسا لمشاعر يصعب شرحها. أما الكبار، فثمة حنين قديم في كل دمية تُشترى، محاولة لملء فجوة، أو إخماد قلق، أو حتى إعلان هشّ بأننا نستحق لمسة عطف. هناك من يستهزئ بذلك، لكن الواقع يقول إن الاستهزاء نفسه علامة من علامات الحيرة.
لسنا أمام ظاهرة معزولة، بل امتداد لثقافة تفضّل اللمسة على العمق، والفُرجة على الفهم. ثقافة تُنفق على ما يُرى، وتخشى ما يُفكّر فيه. لابوبو قد لا تقول شيئا، لكنها تعبّر عن الكثير: عن استسلام لسلطة "الترند"، عن توق إلى أشياء لا نعرف كيف نطلبها، وعن هشاشة داخلية تطلب رموزا خارجية لعلّها تهدأ.
وإذا كانت لابوبو اليوم أيقونة اللحظة، فغدا ستكون غيرها. لكن القاسم المشترك سيبقى: استهلاك لا يصنع المعنى بل يملأ فراغه، وتعلق لا ينبع من الداخل بل يُضخّ من الخارج. السؤال لم يعد: لماذا نرغب؟ بل: ما الذي يحدث لذواتنا حين نرغب لأن الجميع رغب؟
تابعوا نبأ الأردن على
تصميم و تطوير