د.حسن براري يكتب : نزع القناع الأبيض

{title}
نبأ الأردن -
أبهرتني كتب فانز فانون الثلاث التي قرأتها في مرحلة مبكرة من حياتي. ففي سياق محاولاتي لفهم العنف كوسيلة للتحرر وفهم التجربة الجزائرية على وجه التحديد لم يقنعني السرد التاريخي للدكتور الذي حاضر بنا عن الثورة الجزائرية، فققرت الغوص بشكل أعمق لفهم ليس الحدث التاريخي السهل بل تفكيك الحدث واعادة انتاجه في سياق العلاقة بين المستعمر (بكسر الميم) والمستعمر (بفتح الميم) ولم أجد سوى فرانز فانون.

لمن لا يعرف فرانز فانون، هو طبيب نفسي وفيلسوف من أصول كاريبية (مارتينيك)، خدم في الجيش الفرنسي خلال الحرب في الجزائر، وهناك شاهد  فظائع الاستعمار والقمع الأمر الذي دفعه إلى تمرد فكري ونضالي على النظام الاستعماري الذي كان يخدمه.  وهنا أطلق صرحة حوهرها أن التحرر يبدأ من إعادة بناء الوعي ومواجهة الاستلاب الداخلي

قالها مرة إبن خلدون بأن المهزوم  مفتون بالمنتصر، وهنا يشير إلى الاستلاب مع أن هذا المفهوم لم يستخدمه ابن خلدون. لكن في كتابه الثري والذي حمل عنوان "بشرة سوداء، قناع أبيض"، يكشف فرانز فانون ببصيرته الثاقبة كيف يتحول الإنسان المستعمَر إلى كائن يرتدي قناع المستعمِر متوهمًا أن التشبه به هو طريق النجاة والاعتراف. 

هذا التحليل لا يخص إفريقيا وحدها بل يجد صداه بوضوح في العلاقة الراهنة بين العرب والولايات المتحدة. حين يتم استيراد النماذج الأمريكية بلا نقد ويصبح رضى واشنطن معيارًا للشرعية، هنا يكون العربي قد ارتدى "القناع الأبيض" وتخلى عن ذاته.

من دون شك لم يكن فكر فانون  تنظيرًا أكاديميًا باردًا، بل صرخة نضالية تهدف إلى تحرير الوعي قبل تحرير الأرض. والعرب اليوم، وقد طال اغترابهم، لن يحققوا نهضتهم من دون مراجعة شجاعة لهذا الوعي المأزوم، وإعادة بناء العلاقة مع القوى الكبرى على أساس الندية لا التبعية. فالتحدي الجوهري لا يكمن في رفض الآخر، بل في نزع القناع والانطلاق من الذات الحرة والمعتزة بهويتها والواثقة بمقدراتها.

كنت أفرض على طلابي في الجامعة الأردنية في مساق "نظريات النزاع" قراءة كتب فرانز فانون، مثل "معذبو الأرض"، كجزء من مشروع نزع الاستعمار الأكاديمي (decolonization of social sciences) عن العلوم الاجتماعية. ورغم احتجاج البعض على اقحامي لفرانز فانون إلا أنني كنت أرى في ذلك اضافة لطلبتي لتعزيز قدرتهم على فهم واقعهم بأنفسهم.

بقي أن أقول أن التحرر الحقيقي لا يكتمل دون تحرير العقل من سحر التراث المزور الذي يقيد التفكير ويعطل القدرة على الإبداع والتجديد، ولهذا التخلف حراس كثر يهددهم الوعي، لذلك معركتنا الرئيسية هي معركة وعي!
تابعوا نبأ الأردن على
تصميم و تطوير