عبدالله بني عيسى يكتب :ترامب والقرارات التي جرحت قلب الرأسمالية

{title}
نبأ الأردن -


في نهايات القرن العشرين، ومع تفكك الاتحاد السوفييتي وسقوط جدار برلين، بدا وكأن التاريخ قد قال كلمته الأخيرة. الشيوعية، تلك التي وُلدت من رحم المساواة والعدالة الطبقية، انهارت تحت وطأة تناقضاتها الداخلية، لا بفعل غزو خارجي أو مؤامرة دولية، بل نتيجة خللٍ في النظرية أدى إلى تشوّهٍ في التطبيق، حتى فقدت قدرتها على الإقناع.

 اليوم، وبعد أكثر من ثلاثة عقود، تبدو الديمقراطية الليبرالية وكأنها تدخل منعطفًا مشابهًا. فمع صعود دونالد ترامب  بشخصيته المضطربة، إلى رئاسة الولايات المتحدة، وما رافقه من تصريحات وسلوكيات وقرارات صادمة وتجاوزات مقلقة، أعاد العالم النظر في أسس النظام الذي ظنّه مستقرًا، وأنه أفضل ما أنتجته البشرية في الحكم. لم تعد الولايات المتحدة، كما جرى تقديمها لعقود، نموذجًا للحكم المتزن المؤسسي، بل تحوّلت أمام الأعين إلى مختبر حي لأزمة الحكم الحديثة، حيث يبرز سؤال مهم: هل يمكن للديمقراطية أن تنتج طغاة؟

 
أزمة النظرية قبل أزمة التطبيق

صحيح أن ترامب حالة استثنائية في شخصه وأسلوبه، لكنه أيضًا ابنٌ شرعي لنظام أنتج أدوات تمكّنه من الوصول إلى الحكم، ومن ثم التأثير العميق فيه. فحين ينجح رئيسٌ منتخب، باستخدام أدوات النظام الديمقراطي، في تقويض مؤسساته، وضرب قيمه، وإعادة تعريف أولوياته الكبرى، فإننا لا نكون أمام خلل في الأشخاص، بل في صميم النظرية ذاتها.
 
لقد فرض ترامب ضرائب جمركية على أقرب الحلفاء، وتسبب بشخصه وفردانيته في اضطراب كوني، وانسحب من اتفاقيات دولية كانت تمثل روح العولمة الليبرالية، وخاض صراعًا مفتوحًا مع الإعلام، وحرض ضد القضاء، وهدد بعدم الاعتراف بنتائج الانتخابات إن لم تكن لصالحه، وقوّض برنامج مساعدات عُدّ واجهة أخلاقية لبلد "عظيم”، وتعامل مع البشر وضحايا الحروب بمنطق تاجر العبيد.

 

كل ذلك لم يكن مجرد قرارات سياسية، بل هزة عنيفة في جدار المعتقدات الكبرى التي قامت عليها "أمريكا المؤسسات” و”الديمقراطية الراشدة” و”اقتصاد السوق المفتوح” و”مهابة الدولة العظمى” التي تحفظ التوازنات الدولية. لقد بدت الولايات المتحدة، في عهد ترامب، وكأنها دولة تخرج من تحت عباءة الفكرة التي أسستها.

 في مقدمته الشهيرة، يرسم ابن خلدون مسارًا تاريخيًا لقيام الدول وانهيارها، يبدأ بما يسميه "العصبية” — وهي القوة الجامعة التي تمنح السلطة مشروعيتها — ثم يمر بمرحلة التحضّر والتنظيم، ويصل في نهايته إلى طور الترف والانحلال، حين تفقد الدولة معناها الأخلاقي، وتتحوّل إلى عبء على المجتمع بدل أن تكون وسيلة لحمايته وخدمته.

 هذه القراءة الخلدونية تصلح اليوم لتفكيك ما يحدث في أميركا والغرب عمومًا. فقد أصيبت الدولة الليبرالية بأعراض الترف السياسي والنخبوي، وبدأت السلطة تُمارس لا باسم المصلحة العامة، بل لحساب فئات ضيقة من رأس المال والنفوذ. ومع تآكل الثقة بالمؤسسات، بدأ الناس يبحثون عن "الزعيم القوي”، حتى لو كان مستفزًا، متقلبًا، أو ناقضًا لقيم النظام نفسه.

من صناديق الاقتراع إلى صناعة المستبد

في المفارقة التاريخية الكبرى، كانت الأنظمة الشمولية تنتج دكتاتوريات باسم الشعب، بينما باتت بعض الديمقراطيات الحديثة تنتج زعماء فردانيين باسم الشرعية الانتخابية.

في المجر، البرازيل، الفلبين، إسرائيل، وأميركا، تتكرر الظاهرة: زعيم يَصعد عبر الصندوق، ثم يُفكّك القواعد التي أتى بها، ويحكم بمنطق الغلبة لا الشراكة، ويُسخّر المؤسسات لحماية سلطته، لا لضبطها.

 

وهكذا تنتقل الديمقراطية من كونها منظومة تداول وتوازن، إلى أداة لتمكين الزعيم الفرد على حساب النظام المؤسسي. إنها دكتاتورية من نوع جديد: مزينة بنتائج انتخابية، ومحاطة بهالة من الجماهيرية، لكنها تقوض القيم التي ادعت الدفاع عنها.

 البُعد الأخلاقي: سقوط القيم أم سقوط الأقنعة؟

ربما الأخطر في هذه التحولات ليس فقط تهديد آليات الحكم، بل خدش الصورة الأخلاقية التي صدّرتها الولايات المتحدة للعالم طوال عقود، حين قدّمت نفسها كحامية للديمقراطية، ونموذج للمؤسسات المستقرة، ومركز للعقلانية السياسية.

اليوم، يشهد العالم كيف يمكن لهذا النموذج أن يتعرّى من داخل ممارساته. كيف يمكن أن يتحوّل "قائد العالم الحر” إلى رمز للشعبوية والانقسام والعداء للمؤسسات.

فهل كانت تلك القيم صادقة فعلًا؟ أم أنها كانت مجرد خطاب يستخدم وقت الحاجة، ويُتخلى عنه أمام أول تهديد داخلي؟

 هذه اللحظة تفرض على العالم إعادة التفكير في مدى صدقية النظام الديمقراطي الليبرالي كنموذج أخلاقي، لا فقط كنظام حكم.

 لا يعني كل ما سبق أن الديمقراطية قد انتهت، لكن من المؤكد أنها تعيش أزمة عميقة، ليست تقنية ولا سياسية فقط، بل فلسفية وأخلاقية. لقد أصيبت الفرضيات التي قامت عليها الديمقراطية — من عقلانية الناخب، إلى توازن السلطات، إلى حيادية المؤسسات — بتشقق حاد.

وربما نحن لا نشهد موت الديمقراطية، بل نهاية نسختها الغربية الليبرالية، أو على الأقل بداية عصر جديد ستولد فيه أشكال هجينة من الحكم، تمزج بين الشرعية الانتخابية، والقومية الاقتصادية، والتسلط الناعم باسم الاستقرار (كرّر ترامب في الأشهر الماضية جملة: فرض السلام بالقوة”.

 لكن يبقى السؤال الأعمق، وهو سؤال ابن خلدون أيضًا:

إذا تحوّلت السلطة إلى وسيلة لتمكين فئة على حساب المجموع، وإذا اختزلت الدولة في شخص، وإذا غاب المعنى الأخلاقي عن الحُكم — فهل يبقى للدولة بقاء، أم تبدأ لحظة أفولها؟

كل نظرية حكم تبلغ لحظة تصدع، إما تنتهي فيها، أو تعيد تعريف نفسها. الشيوعية انهارت حين فقدت قدرتها على إقناع شعوبها. والديمقراطية اليوم تبدو وكأنها تمرّ بالاختبار ذاته.

 ختامًا، لا يبدو أن العالم على وشك الانهيار، لكنه على الأرجح يقترب من إعادة تعريف كبرى لفكرة الحُكم نفسها — تمامًا كما حدث بعد سقوط الشيوعية. ومن يدري، لعل هذا الزمن المضطرب يُنضج نظرية جديدة لم تولد بعد، تمامًا كما يقول التاريخ دائمًا: "ما بعد الانهيار ليس دائمًا ظلامًا، بل قد يكون فجرًا جديدًا يتشكل ببطء”.
تابعوا نبأ الأردن على
تصميم و تطوير