د. ماجد الخواجا يكتب : سوريا تتنفس حرية
نبأ الأردن -
سقوط الطغاة أجمل من سقوط المطر وسقوط جدار برلين..
الثامن من كانون الأول من عام 2024 سيذكره 25 مليون سوري بكل فخر واعتزاز، إنه يوم استعادة سوريا لحريتها المسلوبة منذ سنين طويلة لم تبدأ بفترة عائلة الأسد وإنما عانت في فترة الأربعينيات والخمسينيات والستينيات من القرن الفائت من انقلابات عسكرية متعاقبة لم تهدأ فيها أحوال سوريا، إلى أن جثم الأسد على أنفاسها طيلة 55 عاماً بانياً دولة الخوف حتى صارت سوريا عبارة عن مسرح للجريمة بحجم البلد، دولة انطبق فيها صحة مقولة أن للحيطان آذان، دولة أعلت من شأن العبودية والاستعباد للأفراد، دولة لم يبق فيها شارع أو زاوية إلا وزرع فيها تمثال للزعيم الخالد القائد للأبد أو صورة ممتدة لا يستطيع المواطن إلا أن يمرّ بعينيه لمشاهدتها صباحاً ومساء.
أذكر في ثمانينيات القرن الماضي أنني كنت أتجول في دمشق برفقة صديق جزائري يدرس في جامعة دمشق، ودخلنا إلى المتحف الوطني في منطقة فكتوريا أو البرامكة، بدأنا نلقي نظرة على الموجودات الأثرية في المتحف، لكن خرجت مني جملة عفوية حيث قلت: ألا ترى يا أحمد أن هذا هو الموقع الوحيد الذي لا توجد فيه صور للرئيس؟ وفيما نحن نتابع سيرنا في المتحف فإذا به ينكشف عن بهو فسيح مرتفع على شكل دائري، وفي أوسطه تمثال مهيب للسيد الرئيس، سرت قشعريرة من خشية ما انتباني من تفكير قد تكون فروع الأمن شعرت به.
لم تهنأ سوريا بخيراتها التي يشهد العالم عن المذاق الطيب للتفاح الزبداني والأجاص والكرز والرمان والعنب، فهي أصبحت مجرد شركة متعددة المساهمين المحدودة، فلا يمكن لأي مشروع القيام به دون أن يكون لأحدهم من مسؤولي الدولة نصيب وافٍ منه.
حين كنا نصل إلى حدود معبر درعا، كان السائق يطلب من كل راكب مبلغا معينا يضعه في أحد جوازات السفر بعد جمعه من الركّاب، ويناوله للضابط الذييفتح الجواز ويأخذ المبلغ ليضعه في جيبه، وليستكمل السائق اجراءات ختم الجوازات والخروج بسهولة ويسر. والويل كل الويل لمن يرفض دفع « البراطيل» لأنه لا يعلم إلا الله ما يمكن أن يتم بحقه.
في سوريا تهمة فريدة لا تجدها في أية دولة في العالم، ألا وهي تهمة « تشابه الأسماء» حيث يمكن اعتقال أي إنسان ولأية مدة وتحت سياقات من العذاب والهوان بمبرر تشابه الأسماء.
في سوريا لا تستطيع معرفة مكان احتجاز أي إنسان وسبب الاعتقال ومدته وهل تمت محاكمته، فما بين فرع الأمن السياسي إلى المخابرات الجوية إلى الجنائية إلى فرع فلسطين إلى فرع 999 أو 261 أو 242 أو... فكل فرع هو جهاز مستقل بذاته، ولا توجد آلية للتواصل بينها إلا لمن هم من الراسخين في الواجهة الأمنية والسياسية العليا للدولة.
في سوريا فرع أمني بإسم فرع فلسطين، لا غاية له غير اعتقال وتعذيب وقتل كل من ارتبط بعلاقة بفلسطين. لقد توحد العالم العربي تحت سياط جلاّدي فرع فلسطين، هناك تشاهد السوري والمصري والأردني والعراقي والسعودي والليبي والجزائري واليمني والتونسي والكويتي واللبناني، وطبعا بالتأكيد الفلسطيني.
في سوريا في حال فقدان شخص ما، لا يمكن ظهوره أو تحديد مكانه إلا بطريقة واحدة، الدفع الجزافي لمبالغ كبيرة مع تأمين واسطة أكبر.
لم أستغرب عدم ظهور مساجين بأعداد كبيرة كما كان يتوقع أهاليهم، لأن النظام ليس على استعداد لإبقاء عدد كبير يقوم على تأمين الحراسة لهم والطبابة والطعام والعلاج وغيرها من مستلزمات هو في غنى عنها، إضافة إلى تحاشي تقارير وزيارات منظمات حقوق الإنسان التي تسبب الصداع للنظام بأسئلتها التحقيقية. هذا النظام اتبع أسلوب التنظيف أولاً بأول، حيث كان يجدد المحتجزين ويتخلص ممن مضى عليهم مدة زمنية معينة أو لم يعد في مقدورهم مواصلة الحياة بسبب تدهور حالتهم الصحية، وبالتالي كان القتل الجماعي والتخلص من الجثث بواسطة ماكنة كبس اللحم أو غرف الغاز أحواض الكبريت هي الطريقة المثلى للتقليل من الأعداد.
سوريا كانت أكبر مقبرة جماعية في العالم، سوريا حقق النظام فيها وحدة عربية خالدة تجلت في الاعتقال والاحتجاز والتعذيب وهدر الكرامة الإنسانية والقتل البشع والدفن المجهول الهوية.
هنيئاً للشعب السوري خلاصه من أعتى وأقسى الأنظمة البوليسية المرعبة. ونبتهل إلى الله أن يهيئ لهم من يقودهم بحكمة وإنسانية ومحبة.
نحترم إرادة وخيارات الشعب السوري الشقيق الذي له الحق في اختيار الطريقة المناسبة لبناء الدولة الحديثة القائمة على المواطنة والكرامة والحرية المسؤولة.