د.منذر الحوارات يكتب :مأساة سورية بين زلزالين
لم أفكر إلا بالحياة لي ولأولادي وزوجي ، هكذا قالت سيدة سورية شابة ترقد على سرير الشفاء بعد الزلزال المدمر الذي أصاب العديد من المدن السورية والتركية ، الحياة والرغبة فيها هي الحبل السري الذي إستطاع أن يبقي الأمل في سوريا يانعاً حتى الآن وهو نفسه الذي أبقى طفلة أُخرجت من تحت الأنقاض حية وهي تصرخ مبتهجة بالحياة رغم فضاضة المشهد وهول الكارثة وكأنها تقول للمنقِذين المُجهدين حدّ السقوط ها أنذا أعود من تحت الأنقاض ومن رحم الموت وهو ما حصل حرفياً مع هذه الطفلة وهو الذي سيحصل مع سورية على مايبدو ، وهي التي أصابها زلزال الحرب بين الأشقاء قبل عقد من الزمن وهو الذي جعل سوريا بمثابة جرح مفتوح ينشر قيحه المتمثل بالانقسامات الطائفية والعرقية والدينية على طول الخارطة السورية بل تعداها الى كل دول المنطقة العربية .
هذا الانقسام العامودي داخل المجتمع السوري عكس نفسه على الخارطة الجغرافية السياسية لسوريا فهناك ثلاث مناطق منفصلة عن بعضها البعض تدير كلٌ منها مجموعة مستقلة عن الأخرى ، أولها المنطقة التي يسيطر عليها نظام الحكم في دمشق والثانية تسيطر عليها قوى المعارضة في الشمال والثالثة تسيطر عليها القوى الكردية ، طبعاً لكل طرف من هذه الأطراف محاججته الخاصة لمفهوم الوطن ونظام الحكم وكل من هذه الأطراف يرى سوريا من زاويته الخاصة والتي يوضع فيها الطرف الآخر في خانة العمالة والخيانة وما يشبهها ، ولأن أي طرف لم يتمكن من هزيمة الطرف الآخر بشكل حاسم وفرض إرادته عليه أو كسر شوكته فقد لجاء كل واحد من الأطراف الثلاثة للاستعانة بصديق أو داعم خارجي ، فالنظام لجأ إلى دول ومنظمات مسلحة تصدرتها روسيا وإيران ، والمعارضة استعانت بتركيا أما الأكراد فقد كانت الولايات المتحدة هي مصدر قوتهم ودعمهم ، إذا فنحن نتحدث عن ثلاث أفرقاء بخمس داعمين أو بتعبير أدق محتلين .
هذا الوضع من الإنقسام والتشرذم هو حال سوريا قبل الزلزال الثاني طبعاً والذي ترك مئات الآف من القتلى ومثلهم من الجرحى وكمّ هائل من الدمار والخراب في المنازل والبنى التحتية والتي أصبحت أثراً بعد عين بالإضافة إلى جروح غائرة في عمق التركيبة السكانية السورية ، فالزلزال الثاني جاء على بيئة ألِفت الموت والخراب ورحلات اللجوء وألِفت غياب الدولة ومؤسساتها وتعودت على هيمنة القوة وإبتزازها لذلك وجدنا المواطنين السوريين يتفاعلوا مع تداعيات الزلزال وكأنها شأناً عادياً إذ تساوى بالنسبة لهم سقوط البناء بصاروخ أو بهزة أرضية فكليهما سقوط وتساوى الموت بالزلزال أو بقذيفة فكلاهما موت ، لكن الفاجعة الحقيقية بالنسبة للسوريين هي أنه رغم أن لديهم فائض من الحكومات إلا أنها كانت عاطلة عن العمل فبينما كانت تنهمر المساعدات على تركيا من كل حدب وصوب ، كانت تستعصي على سوريا بسبب السؤال الذي حير وأربك كل من يريد المساعدة من هي الجهة صاحبة الأهلية لتلقي المساعدات وتوزيعها ؟بالنسبة للدول العربية فقد حسمت أمرها مبكراً فكانت دمشق هي وجهة مساعداتها أما الدول الغربية فقد كان هذا التساؤل اكثر وضوحاً ويمكن اكتشاف ذلك من خلال المساعدات التي دخلت من معبر باب الهوى على الحد التركي والتي بدأت بالوصول في اليوم السادس من الزلازال حيث لا قيمة لها في هذا التوقيت لإنقاذ العالقين تحت الأنقاض .
أما الفجيعة الأخرى فكانت تقاعس المحتلين عن تقديم العون والمساعدة رغم إنهم قدموا للمتحاربين عشرات الآف القنابل والدبابات والصواريخ وغيرها إلا أنهم لم يقدموا للمنكوبين أبسط أشكال العون فقد اقتصرت أدوارهم على الشكل الإعلامي فانحصر دور الروس في مناطق النظام أما الإيرانين فكانت رسالتهم حاضرة من خلال رئيس فيلق القدس إسماعيل قآني والذي أصر أن يكون موجوداً في حلب وبالذات من أمام مشهد النقطة وهو المكان الذي يُعتقد أن نقطة من دم الحسين بن علي رضي الله عنه قد سقطت فيه في مشهدية تبوح عن نوايا مستقبلية لا تخطئها عين بصير ، أما الأتراك ولا لوم عليهم كونهم مثكولين كما السوريين لكنهم أبداً لم يتنازلوا عن دورهم كمحتلين وهو ما بدا واضحاً في معبر باب الهوى والذي لم يسمح للعبور من خلاله إلا في اليوم الخامس ، أما الخيبة الكبرى فقد كانت خيبة الأمريكان والأوربيين والذين رغم تشدقهم الدائم بحقوق البشر إلا أن ذلك لم يدفعهم أبداً لتقديم يد العون للمنكوبين السوريين بدون حساباتهم الجيوسياسية ، ولا يمكن التغافل عن خيبة المنظمات الدولية وعلى رأسها الأمم المتحدة فهي أصدق دليل على غياب الضمير الإنساني .
دفع السوريين ثمناً باهضاً في زلزالهم الأول والذي لولا تدخل الآخرين المحتلين فيه لكانوا توصلوا في النهاية الى تفاهم يفضي الى دولة راسخة أولى في المنطقة العربية لأنه بإختصار استنفذ كل أحقاد النفوس وبالتالي لن يتبقى أمام الجميع إلا الحوار ، أما الزلزال الثاني والذي كان يحتاج فعلاً لتدخل أولئك المحتلين رغم ذلك لم يفعلوا واكتفوا بالفرجة الجيوسياسية ، طبعاً سيترك ما حدث ندوبه في الروح السورية إلا أنها ستبقى مشتاقةً الى الحياة وهذا هو حبلها السري الذي سيوصلها الى طريق النجاة رغم تكالب الطامعين فيها وحولها .
























