مذاق الصبر (سيرة ذاتية) للكاتب العُماني محمد عيد العريمي
نبأ الأردن - عرض: سمير عبد الصمد -
يقول الدكتور محمد الذهب في تقديمه للكتاب:
(تجربة الصديق محمد عيد العريمي مختلفة، ولعل هذا الاختلاف هو الذي يجعلها جديرة بالاهتمام ، هي تجربةٌ زاخرةٌ بالمواقف الإنسانية، التناقض فيها وارد، والحبُّ يملأ القلبَ عطرًا، والتضحيةُ تكتسب مكانًا متقدمًا من تلك المواقف).
ويقول الناقد الدكتور ضياء خضير:
(هذا كتابٌ فريدٌ في بابه، يحتلُّ أو ينبغي أن يحتلّ مكانة متميزة بين الأعمال الأدبية الخليجية والعربية المشابهة، وهو كتاب أقرب بطبيعته إلى السيرة الذاتية، يعبّر عن رؤية تتعدى وصف الواقعة أو الوقائع الشخصية لتشكل في الوقت نفسه، واقعة أو وقائع اجتماعية وثقافية محددة).
يقول المخرج والناقد المسرحي بدر النبهاني:
(لعلَّ أهم ما يميز أدبَ السيرةِ الذاتية كميّةُ الصدقِ التي تملأُ جنباتِ النصِّ فتفيضُ إلى عقلِك وقلبِك ووجدانِك لترويهم من تلك التجربةِ، وغالبًا ما تقودك إلى الإعجاب الشديد بذلك التسامح العجيب مع الواقع، وتأسرك تلك المساحات الواسعة من الرضا بالقضاء والقدر، وتحمُّلِ مذاقِ الصبر الـمُر، كما هو الحال في رواية (مذاق الصبر) للمبدع (محمد عيد العريمي). ويمكنكم أن تتخيلوا ماذا يقصد بالخوف؛ إنه ذلك الشعور بالنفي والغربة والعزلة الروحية عن جسد عاش معه كل حياته، تخيّل أن تجد نفسك منفيًا من نفسك ذاتها. أيَّ مذاقٍ للصبر تجرّعه هذا الإنسان؟ وأيَّ تجربة هو مقبل على خوضها؟ وأيَّ صحراء كُتِب عليه قطعُها وحيدًا في سنين موزعة بين القيظ والبؤس والغربة)؟
جاء هذا الكتاب بعد عشرين عامًا من مُعاناةِ الإعاقةِ، وقد تأخر (العريمي) في إخراجِ مكنونات هذه التجربة، أخَّره عن ذلك الخوف من استحضار التجربة ذهنيًا، وبخاصة في سنواتها الأولى الـمُرَّة، بعد صدمةِ اكتشافه فجأة أنه غير قادر حتى على حكِّ أنفه. ويضيف: وبعد عشرين عامًا من الصراع المتواصل مع الإعاقة وتداعياتها المختلفة على الجسد والنفس، قررت أن الوقت حان للبوح، واطلاع الآخرين على ماذا يعني أن يجد الإنسان نفسه فجأة وقد فقد الإحساس في معظم جسده، ولم يعد يقوى على حكِّ أنفه، وقد يُعزى تأخري في الكتابة عن تجربتي إلى الخوف من استعادةِ تفاصيلِ أيامٍ هي الأسوأ في حياتي، لا سيما تلك الأيام المرتبطة بمعاناة السنوات الأولى .. الأكثر ألـمًا .. الأكثر ترسخًا في ذاكرتي.
يبدأ (محمد عيد العريمي)، سرد ذكرياته من تلك البدايات التي عاشها في قريته (وادي المر) الواقعة على حدود الربع الخالي من رمال المنطقة الشرقية، من (سلطنة عُمان)، ويتحدث عن قسوة الطبيعة في ذلك المكان النائي، الذي تكاد تنعدم فيه مقومات الحضارة، فهو لم يرَ حتى العاشرةِ من عمره أيَّ كتاب مطبوع سوى القرآن الكريم. على تخوم هذه الصحراء تشكلت الذاكرة الأولى للعريمي، فعاش فيها نقيًّا صافي الذهن، وتربّى فيه صلبًا عزيز النفس قوي الإرادة، هذه الصفات التي تُفرَضُ فرضًا على مَنْ عاش في هذه المناطق الشحيحة المترامية الأطراف، ولم يكن يدور بمخيلته ذات يوم أن العالم أوسع بكثير من بلدته الصغيرة وصحرائه الواسعة، لم يحلم يومًا أنه سيحطُّ رحاله في الولايات المتحدة الأمريكية لدراسة الهندسة الصناعية.
يصف (العريمي) رحلته الأخيرة من مدينة (صور) في أقصى شرق (سلطنة عُمان) إلى العاصمة (مسقط)، قائلًا:
كان دعاءُ أمي رقيقًا ينضح منه دفءُ الحميمية التي تجسِّد الأمومة بكل أبعادها ومعانيها وقدسيتها، وكان وداع زوجتي رقراقًا حملته ابتسامة هدهدت دواخلي وشدَّت روحي للبقاء. ركبت سيارتي من مدينة (صور) متوجهًا إلى مطار (السيب) للسفر على متن طائرة (شركة تنمية نفط عُمان) المتوجهة إلى حقول النفط في (مرمول) بالصحراء العُمانية، كان ذلك هو أسبوعي الأخير في ذلك المكان النائي، على تُخوم الرُّبع الخالي، قبل إجازتي السنوية، لقضاء شهر عسلٍ طال انتظارُ زوجتي له. وفي الطريق، وفي وقت مبكر من الصباح حين تبدأ خيوطُ النور بالانتشار رويدًا؛ إيذانًا بانبلاج فجر جديد، اتخذت حياتي مُنعطفًا آخر حينما اعترض جملان طريقي … حيث صدمتْ سيارتي أحدَهما بقوةٍ .. رفعته عاليًا؛ ليرتطمَ بسقفها ويهوي بثقله على رأسي.
ويضيف: في مستشفى (خولة) أدركت خطورةَ إصابتي حين رأيت، بعد أن استعدتُ كاملَ وعيي، الجزءَ العلوي من جسدي داخل شرنقةِ جبسٍ امتدت ما بين أسفل البطن إلى أعلى العنق، والأنابيب تدخل وتخرج من الجزء السفلي، لقد أصبتُ بشلل نصف كامل، فجأة فقدت الإحساسَ بجسدي كله، عدا ما فوق الكتفين، واقتصرت قدرتي في الحركة على عينيَّ وفمي، وحسب.
فتحت عينيَّ على أمي وزوجتي بجانب السرير، اكتسى الحزنُ والأسى وجه والدتي، وهي تذرفُ الدموع بلا انقطاع، في حين وقفت زوجتي (فاطمة) تنظر إليَّ بابتسامة أخفت وراءها اضطرابًا بالغًا، وخوفًا عظيمًا، وهي تشاهد نصفَ جسدي داخل قالب من الجبس، وأنابيب السوائل تدخل وتخرج من النصف الآخر، ابتسامة لا تشبهُ في عذوبتها تلك الابتسامة الصافية التي ودَّعتني بها فجر اليوم الذي سبقه. حاولت، بقدر ما أتاحت لي نفسي الضعيفةُ، أن أبدو قويًا متماسكًا، وأن أحتفظ برباطة جأشي؛ لكن نظرةَ زوجتي الحائرةَ المضطربةَ قهرت محاولتي، أضعفت قوتي، ومزَّقت تماسكي؛ فأسالت دمعتي دمعتَها، وبدا لي أن خيطًا رفيعًا امتدَّ بين دمعتينا.
بعد شهرين من العلاج، تكفّل الطاقمُ الطبي لدى (شركة نفط عُمان) بنقله إلى (بريطانيا)؛ للعلاج في أحد مستشفياتها، المتخصص بإصابات النخاع الشوكي، وبعد ثمانية أشهر من المعاناة المتواصلة، استُنفِذت خلالها كلُّ وسائل العلاج، أكّد له الطبيبُ المختصُّ عدم وجود أي تطور ملحوظ أو أية بارقة أمل بتحسّن حالته الصحية، فأرّقته هواجسُ الخوف والحزن واليأس، والنظرةُ اليائسةُ إلى المستقبل، فقد أصبح من أولئك الذين يُطلق عليهم (ذوو الاحتياجات الخاصة).
يصف العريمي لقاءه والدته في (صور) لأول مرة بعد عودته من العلاج، فهي لم تستطع أن تنبسَ ببنت شفة، ولا حتى توجِّه نظرَها إليه، فقط كانت تذرفُ الدموعَ بسبب الصدمة التي نزلت عليها برؤية فلذة كبدها على كرسي متحرك.
يقول: لقد أخلَّت الإعاقةُ بحياتي على كافة مستوياتها، وسواء أقَبِلتُ وضعي الجديد أم لم أقبل، كان لا سبيلَ أمامي سوى أن أتصالحَ مع الإعاقة وأقبلَ شروطَها، وأتعايشَ مع تبعاتها، وألتزمَ بقوانينها مهما كانت قاسية، وكان عليَّ بناءُ حياةٍ جديدة على أنقاضِ أخرى تحطمت، وبناءُ أحلامٍ أخرى في إطار الحدود التي يفرضها وضعي الصحي الجديد. فما أفظع أن تكون حياة الإنسان مجرد انتظار للخلاصِ من أوجاع الذات وآلام الجسد! خلاصٍ من معاناة مُضنية غير معلومٍ وقتُه ولا شكله، فجأة وجدت نفسي في عالمٍ تحكمه قوانينُ الإعاقةِ، وأنا ما زلت أفكِّر بعقلية الشخص السليم القادر على الحركة والفعل.
يتحدث الكاتب بأسلوب راقٍ مؤثر عن حياته الخاصة، والمصاعب التي واجهها، ونظرة المجتمع إلى الـمُعوَّق، وعلاقاته مع أسرته وزوجته وأصدقائه.
يقول (العريمي): أثبتت (فاطمة) قدرةً لا متناهية على التحدي، ومواجهة وضعي الصحي الجديد بكل تداعياته، بدنيًا ونفسيًا، وأذابت ببساطةِ تعاملِها وحبها كلَّ ما ترسَّبَ بداخلي من أوهامٍ ووساوس. لكن، جاء ذلك اليوم الذي حسمت فيه (فاطمةُ) الأمر، لا سيما أننا لم ننجب حتى يكونَ ذلك مُبررًا قويًا للتضحية من جانبها، لقد اتخذت قرارًا بدا أنه لا رجعةَ عنه، وانتهت علاقتنا بانفصال وديٍّ، وبعد عام من انفصالنا انتقلت (فاطمة) إلى رحمة الله تعالى، وسأكتفي بالقول: أني لم أعش يومًا مضطربَ المشاعر والأحاسيس، مثلما كانت تجربةُ ذلك اليوم الذي بلغ فيه الحزنُ أشدَّه، وتطهّرت النفسُ بدموعه.
ومع كل ذلك الأسى والحزن الذي عاشه، نجح (العريمي) في تجاوز محنته، وأوجد لنفسه واحات خضراء في مسيرته الشاقة، فليس أصدق من هكذا تجربة تعلمك أن الإنسانَ يمتلكُ قوةً خارقةً بداخله، كفيلةً بتخليصه من أية معاناةٍ قد تواجهه مهما عظُمت.
يمثّل الكتابُ في مجمله صورةً حيةً عن إرادة التحدي: تحدي الإعاقة، وتحدي نظرة المجتمع السلبية، وكيف تحوّل (محمد عيد العريمي) من مُصابٍ ضعيفٍ جديرٍ بالشفقة، يحتاج لـمَن يرعاه، ويحسنُ إليه، ويشفقُ لحالته، إلى إنسانٍ مُنتجٍ يتسم بالقوة، فقد تحوّل من مهندس ميداني إلى مترجم في الشركة نفسها؛ ليضفي إحساسًا بقيمة ذاته، وحقِّها في الحياة الكاملة الكريمة، إنه نصرٌ لا يعرف معناه إلا من جَرَّبه، فالإعاقة تولِّد في صاحبها ملكةَ الإبداع، وتجبره على اكتسابِ مهاراتٍ، وتطوير قدراتٍ يتفوَّق فيها على غيره من الناس، تعويضًا عن ما يفتقده.
لا أحدَ يختارُ بمحض إرادته أن يصبحَ مُعاقًا؛ لذا عليه النظر إلى الأمام، إلى المستقبل، مهما كانت التوقعاتُ والافتراضاتُ، فمهما بدا المستقبلُ مُظلمًا إلا أنه آتٍ لا محالة، آتٍ بآلامه وأحزانه،وربما بآماله وأفراحه، ولا مناصَ من من مواجهته والتعامل مع تبعاته وتداعياته، فالحياةُ يمكن أن تكونَ أكثر غنًى، وأكثر ثراءً متى توفرت القناعةُ بأهمية الحياة نفسها، والعملِ على الاستفادة من كل ما يستطيع المرءُ انتزاعه منها.
يقع الكتاب في نحو مائتي صفحة من القطع المتوسط، صدرت الطبعة الأولى من دار الفارابي، بيروت ،2001 وطبع بعدها عدة طبعات.
حاز محمد عيد العريمي على جائزة الإنجاز الثقافي البارز في عُمان لعام 2015، والتي تقدمها مبادرة: (القراءة نور وبصيرة)
علمًا أن الكتاب مترجم للغة الإنجليزية بعنوان:
A Taste of Patience

























