بعد العودة من قطاع غزة .. هذا ما قاله طبيب أردني
نبأ الأردن -
بعد رباط دام اليوم الأول بعد المئة -١٠١ يوم- على أرض فلسطين الحبيبة وتحديداً في شمال قطاع غزة المكلوم الجريح الصامد ، نعود بحمد الله ورحمته إلى أرض الوطن.
بتوجيهات ملكية سامية وبتنسيب من عطوفتي رئيس هيئة الأركان المشتركة ومدير عام الخدمات الطبية الملكية أتيحت لنا الفرصة للوقوف على تطبيب ومداواة جراح أهلنا وأشقائنا في الدين والعِرض والهوية، في المستشفى الميداني الأردني غزة/٧٧ ، تل الهوى/ شمال القطاع .
نعود إلى أرض الوطن بأرواح حزينة وبذكريات مؤلمة طبعت فيها صور الدمار وأصوات المعاناة ، فرائحة الموت والجوع قد ملئت أرجاء غزة ، ذكريات حفرت بها صور الأشلاء والأطراف المبتورة والجثث المتناثرة ، حفرت بها أصوات الصراخ والعويل ،أما صوت القذائف تتطاير في السماء ( ونحن نقول اللهم سلم اللهم سلم ) ما زال في أذني يليه صوت الردم وسقوط العمارات على رأس ساكينها أغمض عينيك وتخيل معي ثلاث أصوات صوت المدفع ، صوت الإنفجار ثم صوت الردم ، وبعض الأصوات حملت معها موت محتم لولا رحمة الله ، فصوت الرصاص الطائش (ڤززز) مارقاً من جنب أُذنك تاركاً ورائه روحك التي لم يحن وقت لقاءها ببارءها ، ناهيك عن الرصاص الطائش والشظايا المتناثرة في كل مكان ، أما صوت الزنانه ما زال يزن في رأسي ، وصوت الإنفجارات والطائرات المقاتلة وخصوصاً تلك التي تكون ليلاً أو وقت الفجر فتلك حكاية مؤلمة أُخْرَى!
اقف هنا قليلاً ، لأوصف لك ما هي الشظية تخيل معي قطعة فولاذية غير منتظمة الشكل لها زاويا حادة مثل الشفرات ، يتراوح حجمها من حجم حبة الارز إلى المتر ، عند الانفجار تصبح ذات درجة حرارة عالية جداً ، تطير الى مدى يزيد عن ال ٧٠٠ متر بشكل قاتل ، تخترق الأجسام فإما ان تكون مميتة او تؤدي إلى تشوهات وحروق خيالية يكون لون الجسد أسود مليء بالفتحات الصغيرة والمتوسطة !!! الإصابات في الطوارئ تمتلئ عن بكرة أبيها بمثل هذه الحالات .
هنالك في شمال غزة مازال مئات الألوف مرابطون صامدون على أرضهم مدافعون عن عِرضهم يعيشون بين الركام وتحت الردم ، بحياة بدائية لايمكن وصفها ولايمكن لعقل بشري يعيش في هذه الحقبة من الحياة أن يتصورها ، لا ماء ،لا كهرباء، لا مؤى في منازل مدمرة ، جثث متناثرة تنهشها كلاب ضالة تتضور جوعاً!! ،،، في حضم كل هذه المعانأة تنتشر الأمراض!!! ما يمكن وصفه في هذه الأمراض بأن ما تراه انت بسيط بينما أنت مغمور بنعم الله ، يصبح في الحروب أشد ضراوةوأكثر إيلاماً ،، تخيل عزيزي القارئ بأنك تعيش في غزة ! لا ماء لا كهرباء لا دواء لا مؤى في كارثة صحية بيئية حقيقة !!! تخيل كمية الأمراض التي ستعاني منها أو قد تصيبك لسبب أو لآخر .
رائحة الموت هنالك لم تكن كرائحة الأموات التي تعرفونها أو سمعتهم بها بل كانت مثل المسك , هنا تتوقف الحسابات والمعادلات البشرية الدنيوية ، أما معادلة الآخرة مختلفة تماماً -لسنا سواء قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار - نحتسبهم جميعاً عند الله شهداء ، ونسأل الله أن يتقبلهم في عليين وأن يكونو لنا شفعاءً يوم الحساب .
فغزة في مثل هذه الأيام لم تعد كما كانت في زيارتي الأولى لها قبل اربعة أعوام ، ففي النهار حياة كاملة ليست طبيعية فترى الناس خرجت إلى الشوارع لترى نور الشمس وتبحث عن لقمة تسد فيها جوع الليل ، وترى الأطفال يلعبون في الشوارع غير آبهين بالحرب الدامية فتلك طفولتهم وأي طفولة تلك !! أما ليلها وأي ليل أحدثكم عنه ظلام دامس لا تكاد أن ترى أبعد من أنفك !!
نذهب إلى بحرها فترى موجه يملئة الغضب الهادر ، وسماء غزة الصافية أصبحت سوداء ،وشوارع غزة لم يعد لها شكل أو هندسة ، فأحياء كاملة اصبحت رماداً !! وشعب غزة الصامد ما زال صامداً لكنك ترى في وجوههم الحسرة والحزن ، الفقر والجوع !
ولا أنسى أمهات غزة ، المرابطات الصامدات المربيات لجيل لم ولن يقهر ، هنيئا لكن بأبنائكن وتقبل الله شهدائكن وربط الله على قلوبكن ، معظم الحوامل اللاتي راجعنني عندهم الجنين ما بكبر اللي احنا بنحكي عنه SGA ! يعني مثلاً المفروض هي تكون باسبوع مثلا ٣٨ ولسا البيبي بعطي قياسات ٣٢ ! ، عمركو سمعتو بحامل بنزل وزنها ، هون بغزة بتشوفهم كل يوم !!! ،
إحدى اخواتنا المراجعات الحوامل غابت عن مراجعات متابعة الحمل لمدة ٣ اسابيع متتالية ! راجعتني ؛ كيفك ؟ امورك ؟ وين كنت غايبة ؟ دكتور لسا فينا روح الحمد لله ، طيب وين غبتو !! دكتور ؛ احنا نزحنا من تل الهوا لما اتحاصر المستشفى ، رحنا لصبرة ، بعدين رحنا للشجاعية بعدين رحنا على الزيتون وصارلنا يومين بتل الهوا !!!
طبعاً الجفاف والتعب مبين بعيونها ! سألتها طيب هسا طمنيني كيف أمورك الطبية ؛ كويسه دكتور الحمد لله ،، بعد حديث عن وضع البيبي ؛ اقدرت اعرف بصعوبة انهم صارلهم اسبوع ما ذاقو طعم الأكل!! ( عزة النفس أعظم من الجوع) .. أي عزة وأي صبر وأي رباط !!!
أما الأطفال الرضع الذين ماتو بسبب الجوع !! او الأطفال الذين اصبحت حياتهم جحيماً بسبب ويلات الحرب .. ( دكتور ما هو مافي حفاظات ، إحنا بنغسل الحفاظة وبننشرها لحد ما تنشف ونرجع نلبسه إياها) !!! تخيل كيف راح تكون كمية التسلخات الجلدية عند الطفل !!
(دكتور احنا بنشربه مي وسكر !! أو مي وخبيزة !! طفل عمره سنتين ووزنه ٢ كيلو وعيونه غايرات من كمية الجوع والجفاف !!!؟) ..
...
في أحد الأيام ؛ ثلاث أطفال - طفلتين وأصغرهم طفل يبلغ من العمر ٤ أعوام ،، راجعو الطوارئ على إثر تسمم بسبب نبتة قامت أمهم بطبخها مع الماء لسد جوعهم ،، ليتضح بأنها نبتة سامه !!
توفي الطفل وبرحمة الله تم انقاذ حياة الطفلتين !!!
نعود بالحديث الى بداية العودة إلى الوطن ، إذ نعود بصدور ملئت بالفخر ، فخراً بمقاومتهم فخراً بعزتهم فخراً بصبرهم ورباطهم ، فخراً بشهيد أو شهيدة وقفنا عند رأسه وهو ينطق الشهادة ، ها نحن عدنا لسنا كما كنا ، فتلك الأيام غيرت فينا ما لم تغيره سنون طوال قد انقضت من أعمارنا ، حفرت بذكرياتنا صور وأصوات لن تنسى !!
لا أدري هل نسعد أم نتعس على مفارقتنا غزة وأهل غزة !
ام الاثنتين معاً ؛ نسعد للقاء الأهل والأحبة ، ونتعس على مفارقة غزة بعد ما رأينا بأم اعيينا وسمعنا بعصب أذنيها وعشنا وتعايشنا معهم ما لا يمكن وصفه! هنالك جزء من أرواحنا قد طمس بالظلام ! ونقطة في القلب قد طفئت تماماً فكيف لا ! وقد ملئت بكل مايجلب الحزن والكآبة!
أما المستشفى الميداني الأردني غزة/٧٧ خلية نحل تعمل على مدار ال ٢٤ ساعه ، بكل جهد بل فوق الجهد جهدين ، لم يكن المستشفى منّة ولن يكن ،فنحن منهم وهم منا ،،، لن أطيل كثيراً فعمل مايقارب الاربعة أشهر لا يُخْتزل بكلمات معدودة لكن يكفيني فخراً وتيهاً بأنه قمت بمتابعة ومعالجة ٢٢١٤ مراجعة طبية مابين أمراض النسائية وجراحتها وحالات متابعة الحمل والولادة ، نسأل الله أن يكتب لنا جميعاً اجراً وأن نبرأ الذمه أمام رب العباد .
يبقى السؤال هل سننسى مع الأيام ! والله لن ننسى فإن لم نكن نحن فأولادنا أو أحفادنا أو حتى أحفاد أولادنا ،، سيأتي ذلك اليوم الذي تكون فيه الاجابة ؛
{ ثُمَّ رَدَدۡنَا لَكُمُ ٱلۡكَرَّةَ عَلَیۡهِمۡ وَأَمۡدَدۡنَـٰكُم بِأَمۡوَ ٰلࣲ وَبَنِینَ وَجَعَلۡنَـٰكُمۡ أَكۡثَرَ نَفِیرًا } .
[سُورَةُ الإِسۡرَاءِ: ٦]
الحمد لله على ما كان والحمد لله ما سيكون والحمد لله على عودتنا سالمين فالحمد لله على كل شيء .
حفظ الله الأردن قيادة هاشمية وجيشاً عربياً مقدام معطاء وشعباً حراً مطمئناً وحفظ الله القائد الأعلى للقوات المسلحة الملك عبدالله الثاني بن الحسين المعظم ، ورزقه البطانة الصالحه وحفظ الله فلسطين عربية حرة وجوهرتها القدس الشريف ودرتها المسجد الأقصى وخفف عن أهل غزة ونصرهم وثبت أقدامهم وألف بين قلوبهم .
هذا غيضٌ من فيضِ ، نقطة من بحر ، حرف من كتاب .
رفعت الأقلام وجفت الصحف.
وبالنهاية أتوجه بخالص الشكر والمحبة لكل من تواصل معي أو حاول التواصل سواء عن طريق الإتصال الهاتفي أو وسائل التواصل الإجتماعي بالرغم من صعوبة وسوء شبكات الإتصال أثناء تواجدنا هنالك في أرض المهمة ،،، وأخص بالذكر؛
رئيس دائرة النسائية والتوليد العميد الطبيب عامر الغرايبة Amer Gharaibeh
مدير مستشفى الأميرة هيا العسكري العميد الطبيب رامي الشويات Rami Shwyiat
قائد طب الميدان العميد الطبيب عصر الهروط على دعمه وتواصله المستمر Aser Alhrout
العقيد الطبيب مستشار النسائية والتوليد باسل خريسات Basel Khreisat
د.أحمد بسام زريقات .
أخصائي جراحة وأمراض النسائية والتوليد والعقم .