وائل منسي يكتب : من التاريخ "الشفوي" للحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية لجانبي نهر الأردن

مرة أخرى:
كنت قد ذكرت عن جدي نمر محمود المصطفى العلاونة، عندما إعتذر عن العمل في شركة الدخان والسجائر الأردنية في العام 1952 واتفق مع صاحب الشركة - وهناك صلة قرابة من جهة الأم- فريد السعد أن يزرع جدي التبغ في أراضي إربد ويبيعها للشركة.
بعد سنة من سكنه في قرية سال شرق إربد مع إبن عمه مصطفى الحامد حيث درس والدي وأعمامي في مدرستها آنذاك، وكونه من مهاجري 1948 ومن وجهاء البلاد " فلسطين" أعطته الأونروا دارا كبيرة نسبيا في مخيم اربد وأرضا بجانبها بمساحة نصف دونم، وكانت معظم البيوت في المخيم عبارة عن غرفتين صغيرتين وحوش صغير ومطبخ وحمام متواضعين.
لكن جدي حصل على 5 غرف واحدة منها كبيرة وملحقا صغيرا، وحوش كبير حفر فيه بئرا وفي أرضه بنى ملجأ "كانت هناك ملاجئ عامة" وفوقه مضافة مفتوحة "كانت تسمى قصة برفع القاف".
هذا العمل في زراعة التبغ أعاد على جدي بأموال ولم يكن يدخر منها الكثير، حيث كان كريما مضيافا يولم كل جمعة لمعظم رجال حارته ويوميا في العصرية يستضيف أصدقاءه بالعشرات يتسامرون ويتحدثون وكان جدي متحدثا لبقا وذو ثقافة واسعة بحكم معيشته في حيفا الميناء والمطلة على العالم وأحواله ويعرف الانجليزية أيضا.
وكان يستضيف أقاربه من فلسطين أياما وأسابيع حتى أن أحد أبناء بنت أخيه من أمه، آمنة العيسى أقام عندهم طوال فترة دراسته.
وكانت جدتي خديجة البكري تحثه على الكرم والعطاء ولم تبخل يوما في دعم زوجها بالتعب والسهر في ضيافتهم وتساعدها عمتي الوحيدة عائشة.
وفي حكاية طريفة، استأجر جدي أرضا مساحتها 50 دونما من أحد خرزات إربد آل رشيدات الكرام، عام 1952 لزراعتها بالتبغ وعرض على جدي شراءها، فاشتراها ب 250 دينار ، طبعا الأرض المزروعة بالتبغ تزرع لمرة واحدة لأنها تحرق الأرض وفي السنة التي بعدها يضطر جدي لزرعها بنبات يصلح فقط كمكانس، ثم يزرعها بالأعلاف ثم يزرعها بالذرة. فكانت الأرض المملوكة وغير المستأجرة عبئا على جدي، فباعها في عام 1958 ب 850 دينارا، اشترى بها ثلاجة تعمل على الأمونيا وراديو حديث كبير "يلتقط صوت العرب من القاهرة" وجهاز تسجيل اسطوانات ذي البوق الذهبي ليسمع محمد عبد الوهاب وأم كلثوم ومحمد عبد المطلب، الذين كان يحضر حفلاتهم في حيفا. إضافة الى بابور أخرس وغاز ثلاث عيون، وكانت هذه من علامات التحضر المبكر في بيئة مدينة إربد.
وقيل لي أن أبي عاد واشترى 750 متر من هذه الأرض الخمسين دونما؛ عام 1979 ب 15 ألف دينار، وبنى فيه منزلا جميلا بجيرة الكرام من آل رشيدات، وآل نصيرات وآل العبابنة من سال وعائلات أخرى شامية وفلسطينية.
ودرس والدي المرحوم أحمد في مدارس إربد سعد بن أبي وقاص في البارحة وكان من أساتذته المرحوم حسن التل الذي كان يكبر والدي بقليل.
تخرج والدي عام 1957 من المترك وكان ترتيبه الخامس على المملكة، وكانت له منحة لدراسة الهندسة في أمريكا، لكن مدير البعثات في وزارة المعارف "التربية والتعليم لاحقا" أعطى المنحة لأحد أقاربه مع أن والدي كان يستعد للسفر للمنحة.
ولم يكن وقتها جامعات في الأردن وكانت أقرب جامعة في دمشق ولتأخره في التسجيل فيها بسبب منحة أمريكا فلم يكن متاحا له التسجيل إلا في تخصص التاريخ في الجامعة العريقة دمشق.
وبعد سنتين من دراسته في الجامعة كان يسمح له باستكمال الدراسة بالانتساب ويقدم الامتحانات لكل فصل وبحكم قرب المسافة بين إربد ودمشق، وعين والدي مدرسا في قرية العالوك التي كان يسكنها عشائر بني حسن الكرام عام 1959 وكان أبي يركب باص إربد عمان وينزل في الطريق ويركب بغلة لتوصله إلى القرية وكان هو الأستاذ الوحيد في المدرسة ويسكن عادة عند مضافة مختار القرية الذي كان يمثل الحاكم الإداري ومسؤول عن خدمات القرية ومرافقها التي بدأت تنشأ في المجتمع القروي.
وكان من طلابه المرحوم خلف الخوالدة والد الصديق المحامي محمد الخوالدة ولم أكن أعرف إلا عندما قابلت المرحوم أبا محمد وقلت له أن والدي درس في العالوك وقال لي أنه من اساتذته ويتذكره، ومن طلابه أيضا صالح القلاب الكاتب المعروف.
وبعدها عمل لسنة ونيف في الداخلية متصرفية لواء عجلون ومركزه إربد، وكان مسؤولا مع آخرين عن تحصيل الضرائب الحكومية عن الأراضي المزروعة في القرى المحيطة في إربد وعجلون.
ثم تخرج من الجامعة عام 1961 وسافر إلى السعودية إلى المنطقة الشرقية في الأحساء، معلما في مدارسها.
تزوج عام 1966 من والدتي سميحة علي سلامة ابداح "من إبداحات" المجيدل الناصرة وليس من قرية عين المنسي "والتي سأفرد لها ولأهلها سردا تاريخيا".
تخرجت والدتي سميحة من كلية دار المعلمين في رام الله عام 1964 وكانت قد أنهت الثانوية من مدرسة إربد الثانوية للبنات التي كانت مديرتها الفاضلة عيدة قناة والدة الصديق القاضي لؤي عبيدات وزوجة النائب لاحقا المحامي العروبي جمال عبيدات.
تعينت معلمة في مدرسة قرية كفر كيفيا التي يسكنها آل العمري الكرام، حتى زواجها وانتقالها مع والدي إلى السعودية لتعمل معلمة في مدارس أرامكو في نفس مدينة الأحساء.
وعودة لجدي نمر أبو السعيد، عندما اندلعت حرب ال 67 تأثرت زراعته وتجارته للتبغ ونزح عدد من أقاربه وسكنوا في بيته أشهرا قبل تأمينهم وانتقالهم إلى مناطق أخرى وفي عام 1970 أصدرت الحكومة الأردنية قانون يحد من زراعة التبغ في مناطق إربد، وشركة الدخان أصبحت تستورد التبغ من الخارج لتوفره وجودته الأفضل.
فبارت تجارته وتقدم به العمر وبعدها جلس في البيت يمارس هوايته باستضافة أصدقائه والحديث معهم.
توفي جدي عام 1975 وكان والدي في السعودية وكنت طفلا في الثامنة من عمري في الصف الثالث وأتته برقية للمدرسة تخبره بوفاة والده وتغير وجهه وعدنا إلى البيت وسألته والدتي تكرارا ما بك وماذا حصل حتى انفجر بالبكاء وهي المرة الأولى التي رأيته يبكي.
والمرة الثانية التي رأيته يبكي في مشهد في مسلسل التغريبة الفلسطينية للمبدعين د. وليد سيف و المرحوم حاتم علي، مشهد للممثل القدير خالد تاجا الذي كان يشبه جدي تماما، وهو في رحلة النزوح مع أبنائه من فلسطين المحتلة عام ١٩٤٨ إلى الضفة الغربية.
حملت بي والدتي في السعودية وأثناء إجازة العائلة في إربد أجاءها المخاض وولدت في مستشفى الراهبات في إربد القاطن في شارع الحصن، عام 1967 بعد النكسة بشهرين، ورجعت إلى السعودية وعمري 21 يوما. وصحبت أمي وأبي، عمتي عائشة الطيبة المعطاءة لترعاني في السعودية لظروف تعليم والدتي، فكانت نعم المربية ونعم الأم وهذا فضل لن أنساه لها.
اوردت هذا السرد لأوضح أن العائلات بين طرفي وجانبي نهر الأردن متداخلة ومتمازجة ومتحابة ومتقاربة، فظروف وحياة وبيئة القرى المحاذية للنهر من جهة فلسطين لا تختلف كثيرا عن جهة الأردن، من حيث الزراعة وحب التعليم، فأكثر نسبة تعلم وشهادات عليا كانت مبكرا في قرى الجانبين.
وائل منسي "العلاونة"