عائشة الخواجا الرازم تكتب : غربة وانتظار

{title}
نبأ الأردن -

عشناها غربة عن أنفسنا وعن أقرب الناس إلينا ، عشناها مساحات واسعة نذرف الدموع شوقاً ليوم أبيض نرى فيه وضوح النهار ، وحينما نعد العدة ونحمل بقجة العودة ، نفاجأ بالغربة الجديدة ، تأتينا أخبار الفصول وتحولاتها فور وصولنا إلى أول خطوة في قطار العودة ، تأتينا إشارات من كل القطارات متسارعة بالوميض ، تجعلنا نشعر أننا تأخرنا عن اللحاق بالقطار وقد هرع الآخرون قبلنا …
نتراجع إلى الوراء ونشعر أننا في المحطة غرباء لا تحتملهم صافرات القطار البطيء ولا ترن لهم صافرات القطار السريع .
يطول الوقوف والانتظار، وتفتح النوافذ وتشرع في تغيير هواء المحطة ، فيصفق الريح وجوهنا وتتطاير حقائب السفر الخفيفة التي جئنا نحملها فارعين دارعين أمام الناس ، لنقول لهم ونشعرهم بأننا زاهدين في الأحمال ، وكأننا نقول لهم لا نحمل سوى الهوية ، حقائبنا فارغة وخفيفة الوزن فلا نثقل على فرقونات القطار … إلا من هوية !
نسمع صفير القطار مخيفا خائفا مت وزن ما نحمل …فيتركنا ويحمل كل الطوابير المحملة بالأثقال والأوزان …
ويطل الهجير علينا من كل الجهات ، فيتركنا القطار ويمضي بعيداً عنا … يركب الناس ونحن نهفو للركوب . ثم نقترب من السكة في الطريق ونلوح للقطار الجديد ، حتى لو أمطرت وأعادتنا للشعور بأن في المسار سيحضر السريع الجديد .
… يطول الترقب ….فنحن ننطوي على ترقب لا ينتهي .
طالت بنا الحياة المثقلة بالترقب من وراء حجاب جدار مهدوم وحبل غسيل دائم الحركة تحت الرياح ، فكل ملعب نقفز في ساحته يغربنا أكثر ، حتى بتنا غرباء في حوش الدار الذي وسعناه ليتسع لعائلتنا المتكاثرة بحجة مباهاة الأمم يوم القيامة .
غرباء بين الأهل وفي السهل وفي الوديان وفي الموئل ، غرباء حتى النخاع … وكل غربة تنادينا بأنها هي المحطة الأخيرة للتمدد على بساط الريح الموجه مع كلمة (غربه ) وبعكس الشرق ظلت عبارة رايحين غربه تنأى بنا إلى أبعد من الشمال والجنوب والشرق والغرب ! فتحولت كلمة ( غرب النهر إلى كلمة غربه ) فلا نهايات في المحطات ولا قطارات تتوقف لنتعلق في حجراتها أو حتى على أطراف فرقوناتها ، كل القطارات تمضي بعيداً عن وقفتنا ، وتقل غيرنا وتسحب أنفاسها وتطلق الصفير .
كل المواقف والمحطات التي انتظرنا القطار فيها محفور عليها كلمة غريب … وفي ذيلها سهم يؤشر علينا …وكل من يقرأ هذه الكلمة ينظر إلينا ويجحر فينا من ساسنا لراسنا بالذات ، وكأننا موسومون بمشرط الحروف الناتئة ومرصود دمنا لاستغراب الخلق بدون هوادة …
كل المحطات تعرفنا وتعجب بفجرنا الذي ترانا فيه مصبحين نشطاء ، تلملمنا صحوة ابتسامة تنم عن صبر يعقوب وأيوب وننهل من إشراقة الشمس رفة الأمل ، فيبادلنا المسافرون المسرعون بضحكة واسعة غير مجلجلة في المحطات فيها خجل وحسرة ، كأنهم يدركون أن القطارات والمسارات لن تتوقف بجانبنا … نشعر بأننا أخوتهم وهم أخوتنا …ونغفل أن ضحكاتهم هي تعاطف مبرق مؤقت يرثي لحال انتظارنا ..
المحطات لنا ملكية مؤقتة تتجهم في وجه صورة الهوية غير قابلة للاستخدام ، البطاقات التي نحملها للركوب إلى هناك مدموغة مع وقف التنفيذ …
تبزغ من بعيد كأنها منافذ الإنطلاق ، لكنها تنفذ فوراً من حقائب السفر وتفرغ ، ومع أن حقائبنا خفيفة لاشية فيها ، تجف فوراً تحت انهمار دموعنا حالما نسمع كلمة ترضية ، أو لمسة على الخدود ، أو تمسيدة على شعر النسيم في حلمنا ، فيكتفي المستعجل المملوء بالوعود برؤيته لرضانا ، ويمضي مبرقاً لجموع المحطات أننا نبسم وفي الصدور تصديق لتوقيت القطار القادم ، ونحن ندرك أن محطة غربه هي الصفير الأول والأخير الأعلى صوتاً في صدورنا ، والحروف الناتئة باتجاه تجاهلنا في الأماكن تبرز وتضيئ وتنطفيء ثم تعود لتضيء وتعود لتنطفيء ، وتظل كلمة غربة تعود وتختفي فوق غيوم عودة القطار آخر الليل ويحل الظلام ، ويطول تعطيل تشغيل القطار الأخير … والناس قد وصلت لأهلها ، ونحن نتطلع حولنا في الساحة الفارغة وعلى سكك السفر ، فلا يعود للقطارات ضجيج ، وفجأة لا يكون في المحطات سوانا !
على قارعة الغربة … حيث انتهى نقل الناس .. كلهم وصلوا لمبتغاهم ، وليس في المحطات مجال للغرباء ! لكننا ما زلنا ننتظر واقفين بحقائب محشوة بفراغ الإنتظار ، وبالتطلع نحو الجهات التي سنسمع منها صفير آخر قطار !!!


تابعوا نبأ الأردن على